الصندوق يوم الأحد 6 أكتوبر اذ لم تسقط سوى مقعدين اثنين الأول لـ«حزب الرحمة» ببن عروس وقد عاد هذا المقعد لحركة الشعب والثاني للقائمة الائتلافية «عيش تونسي» بالدائرة الثانية لفرنسا وقد استفاد منه هذه المرة التيار الديمقراطي..
اذن لا وجود لتغيير جذري لمعطيات الصندوق في انتظار الطعون التي ستقدمها مختلف القائمات (بما فيها التي تم اسقاط مقاعدها) أمام القضاء الاداري، والواضح أن المشهد البرلماني الجديد سيكون التعبيرة المباشرة عن نتائج الصندوق وبالوضعية التي أضحت معلومة للجميع اليوم.
الاشكال الأكبر في هذا البرلمان الجديد المنتخب لخماسية كاملة هو غياب أية أغلبية طبيعية حتى ولو كانت بالحدّ الأدنى.
لو قصرنا نظرنا على الأحزاب والائتلاف السبعة الأولى والتي بامكانها غدا تكوين كتلة نيابية لوجدنا استحالة منطقية لتكوين أية أغلبية سياسية منسجمة مع النهضة أو دونها. النهضة تقول أنها لن تتحالف مطلقا مع الحزب الدستوري الحرّ (17 مقعد) وهذا الأخير يبادلها نفس الشعور ثم أنها لن تتحالف - لو صدقنا خطابها الرسمي - مع حزب قلب تونس (38 مقعد)، فماذا بقي لها؟ التيار الديمقراطي (22 مقعدا) وائتلاف الكرامة (21 مقعدا) وحركة الشعب (16 مقعدا) وتحيا تونس (14 مقعدا)، لو وافقت كل هذه الكتل على الحكم مع النهضة أو على الأقل على مساندة حكومتها لوصلنا إلى أغلبية نظرية بـ 125 نائبا، ولكن هل ستقبل حركة الشعب والتيار الديمقراطي وتحيا تونس بالعمل اليد في اليد مع ائتلاف الكرامة؟! الأكيد لا، وهكذا ينزل هذا التحالف النظري إلى 104 نواب أي دون الأغلبية البسيطة المطلوبة، ثم أن التحاق كل هذه الأحزاب بحكومة تقودها النهضة مسألة تبدو بعيدة المنال في الوقت الراهن من انطلاق المفاوضات الجانبية وغير الرسمية مع كل هذه الأحزاب..
ان استحال الأمر على النهضة لتشكيل حكومة تقودها هي وفق ما يقتضيه الدستور فإن الأمر أعسر بكثير على الكتل والأحزاب الأخري في صورة احتمال فشل مرشح النهضة لرئاسة الحكومة وعودة المبادرة السياسية لرئيس الدولة ليختار الأقدر على هذه المهمة.
منذ النظرة الأولى يتضح للجميع استحالة حكومة تقودها النهضة أو غيرها من الأحزاب، وهذا التوصيف يدركه الجميع وان كانوا لا يقرون به ضرورة.
هنالك حلان فقط لا ثالث لهما أمام كل هذه الأطراف الفاعلة غدا في المشهد البرلماني: إما الذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في شهر ماي القادم مع احتمال إعادة انتاج مشهد فسيفسائي جديد أو ابتكار نمط جديد لحكم البلاد خلال هذه الخماسية القادمة..
قيادات سياسية وازنة عند مختلف هذه الأحزاب بدأت تتجه تدريجيا نحو فكرة حكومة لا حزبية أو فوق حزبية بغض النظر عن التسمية «حكومة وحدة وطنية» أو «حكومة إنقاذ» لا يهم كثيرا الآن..
ما يقوله القيادي في التيار الديمقراطي غازي الشواشي أو القيادي النهضاوي سمير ديلو وبعض الأصوات الأخرى هنا وهناك يذهب في هذا الاتجاه: حكومة غير حزبية تتأسس على برنامج اصلاحي للبلاد تقودها شخصية لديها قدرتا القيادة والتجميع في نفس الوقت.
ولكن الاشكال يبقى قائما إلى حدّ ما وهو هل تملك الأحزاب والائتلافات الأساسية في البرلمان الجديد رؤية مشتركة حول الأولويات الأساسية للبلاد؟
في بعض هذه الكتل نجد غلبة لهواجس ايديولوجية وتموقعات سياسية - كما لائتلاف الكرامة - يجعلها بالضرورة خارج كل ائتلاف حكم ممكن لتونس اليوم ولكن مع ذلك تبقى خلافات ايديولوجية جوهرية بين من أفرزهم الصندوق بشكل قد يقلل بدوره من حصول امكانية توافق أدنى حول برنامج حكم اصلاحي جدي..
صحيح أن هنالك اتفاقا حول تسمية أهم صعوبات البلاد ولكن يخطئ من يعتقد أن هنالك توصيفا مشتركا، اذ في التوصيف الدقيق نصف الحلّ أو أكثر، كما أن هنالك أوهاما ايديولوجية تمنع من النظر العقلاني للصعوبات المعقدة والمركبة للوضعين الاقتصادي والاجتماعي في تونس...
الحلّ المثالي يكمن في رسم خطة حكم هدفها تحقيق أمرين أساسيين: تحرير قوى الاقتصاد عبر اصلاح هيكلي للادارة ولترسانتنا القانونية والاجرائية المعقدة والشروع الفعلي في سياسات ادماجية جذرية لكل مناطق التهميش المجالي والجيلي والاجتماعي والجندري.
نحن لا نحتاج إلى سياسات عمومية ايديولوجية ذات اليمين أو ذات الشمال بل إلى سياسات عمومية تكون قادرة على قطع كل القيود التي تثبط وتعطل اشتغال كل القوى وكل الطاقات الكامنة في البلاد...
هل بامكان كل هذه القوى أن تشتغل بصفة جدية على هذه الملفات وأن تترك جانبا هواجسها الايديولوجية؟ أم أنها ستعتقد أن لديها تفويضا شعبيا يسمح لها بالانغماس فقط في هواجسها؟
الأزمة السياسية والمؤسساتية تبقى هي الأقرب، ولكن هل يحق لنا أن نيأس قبل بداية المحاولة؟!