أمام تشتت البرلمان: في مقتضيات المرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي

غدا، على الأقصى، ستعلن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن النتائج الأولية للانتخابات التشريعية فاتحة بذلك أبواب الطعون أمام القائمات المتنافسة

ليتم الإعلان عن النتائج النهائية في أواخر شهر أكتوبر الجاري وهكذا نكون قد أغلقنا هذا الماراطون الانتخابي وسيكون لتونس رئيس وبرلمان جديدان .

ولكن ما نعلمه منذ الآن بالاعتماد على نتائج سبر الآراء اثر الخروج من مراكز الاقتراع الذي قمنا به بالتعاون مع مؤسسة سيغما (انظر عددنا الخاص ليوم الاثنين 7 أكتوبر 2019) وكذلك النتائج التي أعلنها أمرود أو تقديرات شبكة مراقبون وأيضا النتائج الجزئية التي بدأ يعلن عنها تباعا يتضح بالكاشف أننا سنكون أمام برلمان مشتت لا يتجاوز فيه الحزب الفائز،حركة النهضة، %20 من أصوات الناخبين وستكون كتلته ، على الأغلب، في حدود 50 نائبا أي دون ربع أعضاء مجلس نواب الشعب..

والتشتت هنا لا يقتصر على توزع الأصوات على كتل متوسطة وصغيرة كثيرة العدد بل هو تشتت سياسي أيضا إذ لا نجد داخل هذه النتائج التقديرية – والتي لن تبتعد كثيرا عن النتائج النهائية – أغلبية سياسية واضحة قادرة على تجميع الحد الأدنى لتشكيل حكومة تحظى باستقرار نسبي أي ما لا يقل عن 120 أو 130 نائبا في المجلس الجديد..
فلو قصرنا نظرنا على الأحزاب أو الائتلافات المرشحة لتكوين كتل نيابية ونقصد بها تباعا حركة النهضة وحزب قلب تونس والحزب الدستوري الحر وائتلاف الكرامة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وتحيا تونس وقد تتحصل هذه الأحزاب مجتمعة على حوالي 160 أو 170 مقعدا أي على حوالي ثلاثة أرباع المجلس النيابي الجديد لا نرى أية إمكانية واضحة لتحالف سياسي قوي :

فمبدئيا النهضة لا يمكنها التعويل إلا على ائتلاف الكرامة أو تحيا تونس ولكن نراهن بأن تحيا تونس لن يقبل بهذا التحالف كما انه لا مصلحة مطلقا للنهضة بأن تضع يدها في يد ائتلاف الكرامة،وهذا يعني أن مرشح النهضة لرئاسة الحكومة ،وفق ما يقتضيه الدستور، عليه أن يبحث في شتات الربع المتبقي عله يقنع هؤلاء النواب الفرادى في الأغلب بالالتحاق بحكومته وهذا ما لا نرى له من أفق سياسي ممكن .

في المقابل قد يتمكن قلب تونس ، وهو الحزب الثاني ، من التقارب مع الدستوري الحر ولكن لا نرى حزبا آخر من بين هذه الأحزاب الخمسة المتبقية من يقبل بتحالف يقوده حزب نبيل القروي .. كما ان البحث في شتات الربع المتبقي لا يجدي نفعا كذلك للحزب الثاني .
وغني عن القول بأن البحث عما يشبه الأغلبية خارج النهضة وقلب تونس عبثا سياسي لا معنى له ..

هل يعني هذا ضرورة أننا سندخل في أزمة سياسية ومؤسساتية تفضي الى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها بعد نصف عام ؟
ينبغي أن نقول بأن هذا الاحتمال يبقى واردا لو لم تتمكن أهم هذه الكتل من اتفاقات دنيا حول حوكمة هذه المرحلة القادمة..
قلنا في مرات سابقة بان بلادنا لن تخرج من مرحلة الانتقال الديمقراطي بمناسبة هذه الانتخابات العامة بل ستدخل في مرحلة ثانية من الانتقال الديمقراطي وسمات هذه المرحلة الثانية هي التالي :

• تراجع هام في القدرة التوزيعية للدولة بحكم تحول النمو الهش للاقتصاد التونسي من عنصر ظرفي إلى عامل هيكلي يضاف اليه إنفاق عمومي متفاقم ومديونية مرتفعة والاضطرار، اليوم أو غدا، إلى سياسات تقشفية للحد من هذا النزيف..

• انهيار كلي أو نسبي لمنظومة أحزاب الحكم من الثورة إلى الآن وبروز تيارات جديدة تنتمي إلى شعبويات مختلفة تلتقي كلها في نوع من استسهال الحلول الممكنة والمفيدة للبلاد والاعتقاد بان المعطيات الأساسية لآلتنا الإنتاجية وللعلاقات الاجتماعية المعقدة الناجمة عنها إنما يمكن تغييرها بصفة شبه سحرية بفضل بعض القرارات السياسية..
هذه في اعتقادنا من أهم الملامح التي تميز الفترة الثانية من الانتقال الديمقراطي والتي قد تمتد لعقد من الزمن وهنا نجد أنفسنا أمام حلين لا ثالث لهما :

• حكومات حزبية بتحالفات هشة لا تصمد أمام أول أزمة وتدخل البلاد في مرحلة خطيرة من اللاستقرار السياسي ولكن أساسا الاقتصادي والاجتماعي..

• فهم كل الأحزاب والتكتلات الأساسية في هذا المشهد الجديد أن أغلبية سياسية تتشكل من أحزاب وائتلافات متقاربة فكريا وبرامجيا مسالة مستحيلة وان البلاد في حاجة إلى الحد الأدنى من الاستقرار ولكن كذلك الإصلاح لمختلف المنظومات الاقتصادية والاجتماعية وان ذلك لن يكون الا بحكومة مستقلة عن الأحزاب خاصة في شخص رئيسها ومناط بعهدتها برنامج إنقاذي وإصلاحي مسنود لا فقط من قبل غالبية الكتل البرلمانية ولكن كذلك من اهم المنظمات الاجتماعية وان هذه الشخصية المستقلة القادرة على قيادة البلاد تشارك منذ البداية في هذا البرنامج القادم وتلتزم بتحقيق أهداف مرسومة سلفا وفي سقف زمني محدد ثم تترك لها حرية اختيار الهندسة الحكومية الملائمة والفريق الوزاري كذلك ..
وقد يحصل هذا زمن تكليف حركة النهضة بتشكيل حكومة او عندما تعود المبادرة إلى رئيس الجمهورية بعد شهرين كللا بالإخفاق ..

قد يكون هذا المخرج من أزمة سياسية ومؤسساتية لن تحلها انتخابات سابقة لأوانها ولكن هذا يتطلب نضجا وبعد نظر لدى أهم الفرقاء السياسيين.. اما لو أراد «المنتصرون» حكم البلاد كلفهم ذلك ما كلفهم من تحالفات انتهازية ومحاصصات لا تنتهي فالمآلات واضحة منذ اليوم ..

التاريخ ليس مكتوبا سلفا فبإمكاننا أن نحول هذه الحيوية الديمقراطية الجديدة التي عبر عنها الصندوق إلى عامل بناء مشترك تختفي فيه – الى حين – الأنانيات الحزبية ، كما بإمكاننا أيضا التعنت والإصرار على الخطأ..
نحن في بدايات هذه المرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي والأكيد أن قرارات الأسابيع القادمة ستكون محددة لكامل هذه المرحلة الثانية..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115