حسابيا الفائزان بوضوح هما قيس سعيد ونبيل القروي بعد فرز أكثر من ثلثي الأصوات وبنسب تناهز %19 للأول و%15.5 للثاني مع تقدم عن صاحب المرتبة الثالثة عبد الفتاح مورو مرشح حركة النهضة بحوالي نقطتين ونصف بما يفيد أن الآمر قد حسم حسابيا ،ولكنه لم يحسم بعد قانونيا لأن هيئة الانتخابات لم تنظر بعد في كل التقارير المرفوعة إليها وخاصة من هيئاتها الفرعية ومن الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري (الهايكا) والنقطة التي ينتظرها الجميع تتعلق بالتجاوزات المحتملة لحملة نبيل القروي وهل أنها ترتقي إلى مستوى الخروقات الجسيمة أم لا وهل سينجر عنها خصم جزئي أم كلي لأصوات المترشح ..؟
الأرجح عندنا أن هيئة الانتخابات لن تجازف بالإقدام على عمل كهذا، إلا متى كانت مؤيدات واضحة وقوية وصارخة ولا يرقى إليها الشك ،وهذا ما نرى أن حظوظه ضعيفة، وبالتالي لا نتصور أن تلغي هيئة الانتخابات نتائج الصندوق لاسيما وان المسالة ليست تقنية بالمرة إذ ينبغي لها في هذه الحالة تبرير «إهدائها» المكان الثاني في الدور الثاني للرئاسية لمرشح حركة النهضة ..
في انتظار هذا الإعلان الأولي لابد من الإقرار أن المؤسسات الديمقراطية – رغم كل هناتها- قد اشتغلت كأحسن ما يكون وأي خوف من التلاعب بنتائج الصندوق كان في غير محله وان مرشحي السلطة التنفيذية والتشريعية لم يتمكنوا - أو لم يريدوا – التأثير على إرادة الناخبين وان الصندوق قد أزاحهم جميعا بما يعزز ثقة التونسيين والرأي العام الدولي في صلابة المسار الديمقراطي في بلادنا وانه لا وجود لسلطة قادرة على إيقافه أو التحكم في مساراته .
تحدثنا يوم أمس في عددنا الخاص حول هذا الدور الأول للرئاسية عن «تسونامي منتظر» ونقصد به أننا دخلنا في منعطف سياسي جديد عبر فيه الناخبون عن رفضهم الكبير والقوي لمنظومتي الحكم والمعارضة باعتبارهما متضامنان عند جزء هام من التونسيين في الأوضاع التي آلت إليها البلاد ..
ولكن بعد التصويت العقابي وتصعيد شخصيتين غير نمطيتين للدور الثاني هنالك ديناميكيات جديدة ستشتغل في اتجاهات عدة وأولها طريقة التعامل مع الفائزين الجديدين والتموقع مع احدهما أو المعارضة لكليهما فالرهان بعد أسابيع قليلة هام للغاية إذ يتعلق برأس السلطة السياسية ورمز الدولة للخماسية القادمة والأكيد أن كل القوى الفاعلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستسعى للانخراط بشكل أو بآخر في هذه المعركة السياسية الهامة .
لا يجادل احد في حدوث منعرج حاسم في التجربة الديمقراطية الفتية في تونس وفي كوننا بصدد الدخول في مرحلة ثانية من الانتقال الديمقراطي جل حدودها ما تزال مجهولة أو غامضة ولكن في كل الأحوال لا نعتقد بالذوبان الكلي للمنظومة التي حكمت البلاد من 2011 إلى اليوم ،لان هذه المنظومة لا تقتصر فقط على الطبقة السياسية الظاهرة في وسائل الإعلام أو في الأحزاب الحاكمة أو المعارضة تحت قبة البرلمان بل كذلك على قوى اقتصادية ومجتمعية ضخمة وهي ستبقى قائمة وفاعلة وقوية بغض النظر عن الماسكين بأهم المواقع في السلطة التنفيذية ،ثم بإمكان قوى جديدة غير نمطية أن تقدم نفسها باعتبارها مناهضة للمنظومة (anti système) ولكن أن تصل إلى الحكم كليا أو جزئيا ، تفقد بهرج هذه اليافطة وتصبح رغم انفها جزءا من «المنظومة» ومطالبة ، كما طولب غيرها ، بالانجاز الفعال والسريع ..
السؤال هو كيف ستتفاعل منظومة الحكم الحالية بكل مكوناتها مع هذه العروض السياسية الجديدة غير النمطية سواء اعتمدت على زبونية خيروية او كانت مسكونة بحلم إعادة بناء جذري للمؤسسات ومسنودة من قوى لدى التونسيين من بعضها ذكريات أليمة ..
سوف تتميز بداية هذه المرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي – مهما كان صاحب قرطاج الجديد ومهما كانت تشكيلة البرلمان القادم – بتحولات جذرية في التحالفات على مستوى مختلف المكونات السياسية الجديدة مع احتمال اغلبيات حكم مضطربة وغير مستقرة اما لتشكيل الحكومة القادمة او لقيادة الإصلاحات الضرورية للبلاد .
هنالك مسالة واحدة واضحة في هذا المنعرج الجديد : طموحات التونسيين وسقف انتظاراهم في ارتفاع مستمر وإمكانيات اقتصادية في حالة شبه تراجع وقدرة توزيعية للدولة ضعيفة ..
بداية منعرج فيه بعض الآمال في إعادة استنباط الطريق التونسي للديمقراطية والنمو ولكنه محفوف بالمخاطر الموروثة والجديدة كذلك.