وإن تخلّله الوسيط ، ونعني بذلك الوسيط الإعلاميّ الذي بات حاضرا بقوّة مكيّفا هذه العلاقة وفق أجندات مختلفة، ساهرا على التحكّم فيها وتسييجها بطريقة تلغي في كثير من الحالات، الوعي.
ونتصوّر أنّ رصد سلوك الناخبين مفيد في هذا السياق الانتخابيّ، لسببين أوّلهما : معرفة التطوّر الحاصل في مستوى الوعي والإدراك، وثانيهما استقراء أثر التغيير الحاصل في سلوك الناخبين على العمليّة الانتخابيّة، وعلى الحياة السياسيّة ككلّ. فبالرجوع إلى 'أحاديث' القوم في فضاءات مختلفة كالمقاهي، ووسائل النقل العموميّة، وفضاءات التسوّق، وحفلات «الأعراس» والفضاء الفايسبوكيّ يتّضح أنّ الناخبين مهتمّون بالانتخابات الرئيسية رغم كلّ الظواهر السلبيّة التي صاحبتها من تزوير، وفساد، وتحيّل وكذب ومراوغة، وصراع وعلاقات تسلّطية وممارسات وصفت بالمقرفة.
ويتجلّى هذا الفضول في المتابعة شبه اليوميّة لمعظم التصريحات، والفيديوهات ، والأخبار، واللقاءات وغيرها ولا يقتصر الأمر على الاطلاع فحسب بل نجد حرصا على التعليق و'التقويم' وإبداء الرأي في الخطابات والمساهمة في إذاعتها. ويظهر الاهتمام بالحدث الانتخابيّ في السلوك النفسيّ لشرائح كبيرة من التونسيين كالصراخ والانفعال عند النقاش، والحرص على فرض الوصاية من خلال 'هرسلة' الأصدقاء بالإمضاء على العرائض وغيرها، وهو أمر يُخرج عددا كبيرا من الناخبين من حالة عدم الاكتراث والعزوف عن المتابعة، والمقاطعة إلى الانخراط في الفعل السياسيّ، كلّ من موقعه. ولكنّ هذا السلوك العدواني يكشف النقاب عن منسوب العنف إذ باتت الانتخابات مناسبة لممارسة أشكال جديدة من العنف.
والمواطن/ة إذ يتابع ويناقش ما يعرض من أخبار وجدل ونقاش يُثبت، في الواقع، رغبة في صياغة موقف ما من المترشّحين، وهو موقف يبدو في عدّة حالات ،غير نهائيّ إذ وجدنا من كان من مناصري 'سلمى اللومي' فإذا به اليوم مع 'الزبيدي'... وليس تقلّب المواقف إلاّ علامة دالة على سيطرة الانفعالات والأهواء وتغيير وجهة النظر بعد خضوع المترشحين للاختبارات الإعلامية، وكأنّ الناخب صار يستنسخ تجربة ترحال السياسيين والجامعيين والإعلاميين والنوّاب من 'معسكر' إلى آخر.
ولا يتوقّف سلوك الناخب عند الانسياق وراء هذا النشاط، الفعل... أو ذاك بل نعثر على نصيب هامّ من التفاعل:جدل ونقاش، وخصومات، وحذف، وتجميد للصداقات، وشتم، وتصنيف جديد لقائمة الأصدقاء وإعادة تشكيل لمعايير الصداقة إذ يغدو من يُناصر عبير موسي أو 'مورو ' مثلا عدوّا لا يستحقّ أن يكون 'صديقا' ولذلك أثّر هذا الجدل حول الانتخابات على العلاقات الافتراضية والاجتماعيّة بل الزوجيّة.فكم من خلاف دبّ بسبب ميل الزوجة إلى مرشّح ما وتطوّعها لدعم حملته ضاربة ب'قوامة الزوج' عرض الحائط غير مكترثة بقدرته في فهم المشهد السياسيّ.
ثمّ إنّ ما يسترعي الانتباه في التحوّلات الطارئة على سلوك عدد كبير من التونسيين إقبال الناخب/ة على الإعلان عن دعمه لمرشّحه المفضّل دون المرور إلى 'الخلوة' وتأدية كلّ الإجراءات التي تفترض أن يكون الاختيار سريّا، فيتحوّل الأمر إلى شكل من أشكال 'الوصم '. فأنت داعم فلان وذاك تابع لفلان....مع كلّ ما سيترتّب عن هذا الإعلان من نتائج. يُضاف إلى ذلك حصول حالة فرز تؤدي إلى استقطاب من نوع جديد. فلسنا إزاء مرشّح من اليسار في مقابل مرشّح من اليمين، وهو تصنيف ثنائيّ ييسرّ الاختيار بل نحن أمام حالة أخرى هي أقرب إلى الممارسات العشائرية- القبلية : 'من هو معي ومن هو ضدّي «بقطع النظر إن كنّا نشترك في المرجعيّة أو التاريخ أو التوجهات ...وهكذا صارت كلّ الطرق مقبولة اجتماعيّة للتخلّص من الخصم بالضربة القاضية.
ما الذي فعلته الانتخابات المنفلتة من الأخلاقيات والضوابط بحياتنا اليوميّة وبمزاجنا وسلوكنا بل بلغتنا وطريقة كلامنا ونبرة أصواتنا؟ ما الذي حدث حتى ينجرف الناخبون نحو البذاءة والابتذال... ،ويسقطوا في الجبّ ويسلّموا أنفسهم لمن يشكّل معرفتهم بما يحدث ويزيّف وعيهم؟ فمتى يستعيد 'القطيع' وعيه وينسج ملحمة تحرّره؟