يبدون فيه مجمعين على أن الراحل كان عزيزا عليهم و رمزا من رموز الجمهورية .
هذا الشعب أكّد أنه متميّز و متشبع بقيم التسامح و الديمقراطية و الاعتراف بالجميل لكل من يعمل و يناضل من أجل البلاد وكل من يساهم في بنائها بأمانة وصدق ، و هو ما يشكّل تحفيزا لهمم نساء و رجال تونس المقدمين على تبوئ مواقع السلطة عبر الاستحقاقات القادمة.
لقد كذّب الشعب المشكّكين، وبرهن على أنه يلتف حول دولته في اللّحظة الفارقة، ويعطي المثل على تمدّنه و إكباره لمناضليه و زعمائه، وهو أمر سبق أن عبرّ عنه عند إحيائه لمناقب الحبيب بورقيبة و السعي لاستعادة منهجيته، و كرّره أمس عند توديع أول رئيس منتخب ديمقراطيا في الجمهورية الثانية ، و ذلك بالحضور بكثافة والوقوف وقفة اجلال واكبار له.
لقد حضر التونسيون أمس للتعبير عن اعتزازهم بما بذله رئيسهم الراحل من مجهود لبناء لبنات الحاضر و للتأسيس لمستقبل الجمهورية .
هذه الجمهورية تدعّمت بانتهاج مسار ديمقراطي متميز وفريد في المحيط العربي بتكاتف كل الجهود، وهو ما يحسب لكل مؤسّسات الدولة المساهمة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، كما يحسب لمنظمات المجتمع المدني و لمختلف القوى السياسية الّتي قبلت الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لمعرفة خيارات الناخبين .
لقد كان الرئيس الرّاحل مهندس الآليات الّتي خلقت التوازن بتأسيسه لحزب ضمّ توجهات سياسية غير مبنية على مرجعيات فكرية موحّدة ،و كان شخصية جامعة عارفة بمكوّنات العائلة السياسية و بمتطلبات المرحلة .و لقد وجد في جمعيات المجتمع المدني الطامحة للديمقراطية سندا قويا ، بعد أن تمكّنت من استيعاب انتظارات فئات واسعة من الشعب بخصوص بناء أسس الديمقراطية الناشئة في تونس . وقد كان ذلك بفضل التجربة الّتي اكتسبتها على مرّ السنين في مختلف الأطر العلنية و شبه العلنية ،والسرّية ، و وفّرت الأدوات النافذة والفاعلة في تأطير الشباب و المثقفين ، المتشبّعين بمبادئ الجمهورية و المسكونين بهاجس تطوير البلاد و تقدّمها في جو ديمقراطي يكفل المشاركة الواسعة للمواطنين في رسم اختيارات البلاد.
لذلك تيسّر للتونسيين ، النفاذ إلى مختلف آليات العمل الديمقراطي في مجالات الرقابة والشفافية وحرية الإعلام و التعبير و آليات الارتقاء للسلطة وممارستها ، فأصبحت مكوناته في فترة قصيرة ، فاعلة في المجتمع ، لا فقط، في الدفاع عن خيارات اجتماعية ، بل أيضا مبادرة و متحفزة في الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي .
لقد ساهم الرئيس الراحل في تركيز ثقافة الانتخاب كآلية للإختيار الحر والتداول على السلطة و هو ما حسبته له مختلف فئات الشعب فخرجت أمس بمختلف الشرائح العمرية والمستويات التعليمية ، ومن مختلف المجالات المهنية، لتوديعه الوداع الأخير .
لقد قدم التونسيون صورة رائعة على قدرتهم على التجاوز و الفرز ، وعلى رفعة قيمهم الإنسانية الثابتة و أبرزوا ذلك في لوحات بسيطة و لكنها تكشف تجذرها في ثقافة عامّة الناس المتميّزة بالتسامح و الاعتدال . كما برهنت مؤسسات الدولة من جيش و أمن رئاسي و حرس وطني وأمن وطني و إدارة ، على حسن تنظيم مراسم وموكب الدفن بحرفية واقتدار في وقت وجيز، مع احترام الضوابط والأعراف الديبولمسية بمنظار تونسي ، وهو ما جعل موكب توديع الرئيس الراحل يكون بمرونة و انضباط و في أمن وأمان . و هو ما يسّفه المخاوف من الوضع في تونس، و هو ما يؤكّد للمجتمع الدولي أن تونس على صغر حجمها و محدودية مواردها ، أيقونة في المتوسط ، متميّزة في تجربتها الديمقراطية وفي توجهاتها و منهجيتها في ارساء الحريات وقيم المساواة ، رغم الصعوبات الّتي تطرأ بين الفينة والأخرى على مسارها .
لقد كان رحيل الباجي فرصة للكشف مجدّدا، لا عن تقدير الشعب للراحل فقط ، بل للتأكيد أيضا على تميّز تونس ، وعلى قدرتها على زرع الأمل بتهيئتها بسلاسة ، للمناخ الكفيل بالتجاوز والتقدّم نحو الأفضل.