في مداخل الاستبداد

كتب الفلاسفة كثيرا منذ أفلاطون وخاصة أرسطو عن أشكال الحكم ومن بينها الاستبداد (le despotisme) والطغيان (la tyrannie)

وكتب المعاصرون عن التسلطية (l’autoritarisme) وتباحثوا في الفروق الجوهرية بين نظم الحكم الأساسية : الديمقراطية والكليانية (totalitarisme) والتسلطية بأصنافها.والمهم في كل هذه النظم (باستثناء الديمقراطيات ) وأيا كانت الثقافات والتقاليد السياسية التي تهيكل السلطة وعلاقتها بالمواطنين هو خروج الحاكم عن القانون المكتوب أو الضمني حتى لو اخذ خروجه هذا منحى تأويليا لقانون قائم ..

وعادة ما يخرق الاستبداد القانون لا بخرق صريح لنصه بل بخرق كل الإجراءات المحيطة به وبعدم الالتزام بالضوابط الشكلية لممارسة السلطة .

أي يمكن أن نجد قانونا يحفظ في نصه الحريات ولكن خرق الإجراءات يفرغ هذا القانون من كل ضمانة ، فالسلطة السياسية التي تنتزع الاعترافات بالتعذيب والقضاء الذي يغض البصر عن آثاره البينة قد يقضي بموجب نص قانوني ما وقد يكون في هذا النص بعض الضمانات ولكن الحكم جائر والحقوق قد انتهكت حتى قبل بداية المحاكمة!

احترام الإجراءات الشكلية هو الركيزة الأساسية لا للديمقراطية كنظام سياسي فحسب بل لدولة القانون بصفة عامة أي لضمان حقوق وحريات الأفراد. وعندما يضرب الحاكم بالإجراءات عرض الحائط نكون قد دخلنا في منطقة تماس مع الاستبداد والتسلط حتى لو كان جوهر الحكم مازال خاضعا في جل أجزائه للديمقراطية ..

لنعد إلى مسالة عدم ختم رئيس الدولة للتعديلات المنقحة للقانون الانتخابي .. ولننظر فقط إلى شكلانية التصرف لا إلى مضمونه ، أي لا إلى دواعيه المعلنة أو الضمنية أو القابلة لتأويلات شتى .

في الديمقراطية الشعب هو صاحب السلطة ، وأساس السلطة هو التشريع وهنالك طريقتان لممارسة هذه السلطة إما مباشرة من قبل الشعب عبر الاستفتاء أو بصفة غير مباشرة بواسطة نوابه المنتخبين .. وهذا هو منطوق الفصل 50 من الدستور التونسي ..

ولكن المشرّع لم يترك الأمر للبرلمان فقط بل اوجد سلطة قضائية مستقلة عنه مهمتها التثبت من دستورية مشاريع القوانين حتى وإن صادق عليها مجلس النواب بجل أعضائه اي أن المجلس المنتخب قد يطغى وقد يشرع بما ينافي المبادئ الأساسية لعيشنا المشترك المضمنة في الدستور..

ثم هنالك احتياط ثالث في الدستور التونسي ، اذ بعد مصادقة مجلس النواب وبعد حتى إقرار هذه الهيئة القضائية (اليوم الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وغدا (؟) المحكمة الدستورية ) بدستوريته فقد أعطى الدستور لرئيس الجمهورية المنتخب الحق في المراجعة وعبر آليتين وحيدتين : الرد المعلل الى مجلس النواب أو العرض على الاستفتاء لمزيد الحرص على مطابقة قانون ما لمبادئ الدستور ولإرادة الشعب صاحب السلطة الأصلية بمراجعته مباشرة وفق آلية الاستفتاء او بالعودة ثانية إلى ممثليه وبأغلبية تفوق شروط المصادقة الأولى..وبعد هذا يأتي مجال ختم القانون والإذن بنشره في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية ..

هذه الشكليات تنطبق على كل قوانين البلاد من أبسطها إلى اعقدها ، وحده فقط الاستفتاء يخص بعضها .. وفي الامتثال الحرفي لكل هذه الشكليات يكمن احترام القانون والسير العادي لأهم السلط في البلاد التشريعية (البرلمان ) والقضائية (الهيئة الوقتية ) والتنفيذية ( رئيس الجمهورية). برفض الختم في الآجال الدستورية الصريحة خرج رئيس الدولة عن الحدود الإجرائية الشكلية المنظمة لمهامه ووظائفه، وبهذا الصنيع – وبغض النظر عن كل التبريرات المضمونية – كان خارج الشكلانية الدستورية أي انه دخل مجالا جديدا لم يعد فيه الاحتكام إلى الإجراءات الشكلية المتواضع عليها والمنصوص عليها صراحة بل تأويل غنوصي للإجراءات يخرجها من ظاهر اللفظ ومفهومه إلى مجال تأويلي خاص به وقوامه كما فسره المستشار السياسي لرئيس الدولة: في غياب المحكمة الدستورية يصبح رئيس الدولة هو الناطق والمؤول الوحيد للدستور لا البرلمان ولا الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.

أي انه يصبح الحاكم المطلق في مجال اختصاصه الدستوري يفعل فيه ما يشاء وفقا لما يراه.

فالتأويل الرئاسي لموضوع الختم بأنه لا إجبارية فيه ينسحب لا فقط على ختم القوانين بل على كل المهام التي أناطها بعهدته الدستور من تعيينات وإعلان الحرب والسلم وغيرها ، فهو لم يعد مقيدا في كل هذه المجالات باي قيد سوى تأويليته الخاصة في انتظار قيام (؟) المحكمة الدستورية ..

لاشك ان هذا لا يجعل من نظامنا نظاما استبداديا تسلطيا محضا وذلك لأن رئيس الجمهورية بالنص وبالواقع لا يملك صلاحيات وسلطات أساسية ولكن يجعلنا في باب صلاحياته المخصوصة في مجال لم يعد ينتمي لدولة القانون ..

لاشك أيضا أن لبقية مؤسسات الدولة من حكومة وبرلمان خاصة خروقات لا تحصى ولا تعد لنص الدستور أو لروحه، ولكن هذه الخروقات لا تبرر تلك وإلا كنا في مزايدة مجنونة لتحطيم ما تبقى من دولة القانون ..

وعندما نعلم أن خرق الشكليات هذا عند كل السلط كان بسبب تمسك مهووس بالحكم والقرار أو نتيجة لصفقة عائلية ندرك حجم المأساة التي سقطت فيها البلاد من جراء عهدة انتخابية شعارها الوحيد : عليّ وعلى أعدائي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115