يستبدّ فيه رئيس الجمهورية بالرأي ويحتكر كلّ السلط واستبداله بنمط آخر في الحكم يتنازل بموجبه رئيس الدولة عن سلطته العليا لصالح سلطة الدستور التي صارت تمثّل السلطة العليا في الدولة الحديثة. وقد كان من المتوقّع أيضا أن يؤدي هذا التصوّر الجديد للحكم إلى أوّلا: تحوّل رئيس الجمهورية إلى كبير موظفي الدولة الحديثة، وثانيا استبدال مفهوم الزعامة التقليدية بمفهومي: الإدارة الحديثة والمسؤولية أمام الشعب، وثالثا: إلى انتقال الدولة الحديثة من دولة أبويّة أو دولة تقليديّة إلى دولة تستمدّ وجودها وقوّتها من المؤسسات لا من الأشخاص.
ولكن كشفت الأحداث الأخيرة التي مرّ بها التونسيون/ات بعد مرور رئيس الدولة بـ «وعكة صحيّة حادّة» صباح الخميس 27 جوان 2019، عن واقع مغاير يصرّ فيه أغلبهم على الاحتفاظ بالتصوّر التقليدي للحكم وتكريس الزعامة وصورة الأب. فما إن مرّ الرئيس بأزمة صحيّة وانتابه الضعف حتى شعر من هم «تحت حمايته» بالقلق والضياع والخوف من المستقبل. وليس التعبير عن هذه المشاعر سوى علامة دالة على عدم استيعاب المفاهيم الجديدة التي فرضتها مرحلة الانتقال الديمقراطيّ إذ ظلّ المتخيّل الجمعيّ مشدودا إلى مركزّية السياسي/الزعيم/ الأب/، ورمزيّته .
قد نتفهّم لجوء البعض إلى نشر صورهم مع الرئيس، وإشادتهم بأفضاله على البلاد في فترة كانت حرجة، وقد نستوعب حرب الصور: صورة قائد السبسي في مقابل صورة الغنوشي في مناخ انتخابي استقطابيّ، وقد نتقبّل الدعوات بالشفاء العاجل والرجوع إلى قصر قرطاج، وقد نتفهّم مدح قائد السبسي باعتباره شخصيّة كارزماتية ولكن ما لا نستطيع استيعابه استبعاد البناء المؤسساتي لصالح ضمان استمرار البناء الأبوي. فبعد «الأبوية القبلية العروشية» و«أبوية الدولة البورقيبية» جاء دور تثبيت ركائز أبويّة السبسية وكأنّه يعسر تحرير الشعب التونسيّ من «وضعيّة طِفليّة إتّكالية» على حدّ تعبير مصطفى حجازي، وكأنّه يصعب القطع مع فكرة الرئيس/الزعيم/الأب/الراعي/ الحامي... الذي يجب أن يبقى في ذات الوقت،حامي الشعب الذي لم يبلغ بعد سنّ الرشد، ورمز القوّة والسيادة والاستقرار والأمن. وهكذا أبان سلوك شرائح كبرى من التونسيين أنّهم من لم يستطيعوا التحرّر من النمط الأبوي في ممارسة السياسة إذ ظلّت البنى النفسية – الاجتماعية في انسجام مع السلطة الأبوية من جهة ، وبقيت «الزبونيّة السياسية» مكرّسة لممارسات تفرض التأقلم مع محدّدات الأبوية السبسية المستحدثة.
وبالرغم من هذه المحاولات التي تعيدنا إلى التصوّرات التقليديّة فإنّ «المقاومة» مستمرّة من خلال بروز الحسّ المواطنيّ وانبثاق الوعي السياسي وارتفاع الأصوات التي تعلي من شأن الثقافة القانونية وتدعو إلى الاحتكام إلى سلطة العقل لا العاطفة. فلا عجب أن تتمسّك فئة من التونسيين بالحقّ في معرفة الوضع الصحيّ الحقيقي للرئيس، وأن تطالب باحترام الشعب التونسي وعدم الاستخفاف بحقوقه ، وأن تنتقد أداء مؤسسة الرئاسة والجهة المكلفة بالإعلام.
لاشكّ عندنا أنّ التحوّلات السياسية الأخيرة قد زعزعت مفهوم «الدولة الأبوية»، وأفرزت وعيا جديدا بأهميّة التشاركيّة واحترام سلطة القانون والمؤسسات وإيمانا بدور المواطن/ة في التغيير عبر مجلس الشعب، ونوّاب منتخبين، ودستور يوفّر الإطار العامّ والأمثل لممارسة الحكم. ولكن أظهرت الأحداث الأخيرة أنّنا لا نزال في وضع «بَيني»: بين منظومة تقليدية تشدّنا إلى ممارسات قديمة وتصوّرات تقليديّة، وأخرى مستحدثة تحفّزنا على تكريس الممارسات الديمقراطية، بين رهانات سلطة القانون والمؤسسات، وسلطة الشخص المرسّخ لأنموذج الحاكم/الزعيم/الأب/... ولا مجال للقضاء على هذا الوضع البينيّ إلاّ ببثّ الوعي وترسيخ ثقافة القانون وتفكيك المتخيّل... فدولة المؤسسات واحترام القانون هي الضمانة الحقيقيّة أمّا البشر فإلى زوال.