العيش الكريم لجميع المواطنين؟
سؤال وجيه يطرحه أغلب التونسيين اليوم، وهو معبّر عن تمثّل للدولة يصلها بالرموز الأنثوية فهي «الأمّ الراعية» والحنون والخدوم التي يجب أن توفّر كلّ الاحتياجات لأبنائها وقد عكست لغة الدستور هذه النظرة إذ نعتت الدولة في عديد الفصول بأنّها راعية وضامنة وساهرة... ولكن يبدو أنّ هذه الدولة قد وصلت مرحلة الشيخوخة أو المرض فما عادت قادرة على أداء مهامها وتقديم الخدمات. ولعلّ وزارة الشؤون الدينية تعدّ أبرز مثال عن عجز بعض الوزارات عن تغيير طريقة عملها وخطابها بما يتلاءم مع السياق الجديد. فالمشرفون على إدارة الشأن الدينيّ لم يتجرّؤوا على تحفيز الناس على بذل أموال الحجّ في خدمة الصالح العامّ كبناء المستشفيات وتجهيزها إلى غير ذلك من الخدمات.
وأمام هذا الوضع حلّت بعض مكونات المجتمع المدنيّ لتضطلع بدورها في سدّ الفجوة بين الطبقات وتذليل بعض الصعوبات وتقديم بعض الحلول.ومن هذه المنظمّات والجمعيّات التي عرفت تطوّرا ملفتا للانتباه في السنوات الأخيرة: الجمعيّات الخيريّة التي تقدّم بعض الخدمات الصحيّة والتعليميّة وغيرها.
غير أنّ ما يثير القلق في عمل هذه الجمعيّات الخيريّة هو أنّ عددا منها بات يروم الحلول محلّ الدولة إذ يلتبس العمل الخيريّ، في نظر المشرفين على هذه الجمعيّات، بالدعويّ وبالسياسيّ وبالأيديولوجيا. ففي مقابل المساعدات التي تقدّم لمختلف الأفراد (شباب وكهول وشيوخ ونساء...)هناك ولاءات تُبنى وانتماءات تعزّز الأحزاب ودعاية تنجز لفائدة القيادات الحزبيّة. فليست «القفّة» التي تقدّم في الأعياد وفي رمضان وغيره من المناسبات سوى وسيلة لكسب أنصار جدد للحزب يدافعون عن «قرب» المسؤولين من الشعب وخدمتهم «للزواولة» ويساهمون في الترويج لخطابات القياديين.
وحين يظهر العمل السياسي في لبوس العمل الخيريّ تتضّح عمليّة التلاعب بالعقول والقلوب ويغدو النشاط الخيريّ وسيلة لتصنيف الناس وأداة لمراقبتهم وأداة تساعد على تأسيس القاعدة الاجتماعية والسياسية للحزب. ولئن كان هذا الشكل المتعارف عليه بالنسبة إلى الجمعيات الخيرية ذات التوجه الدينيّ فإنّ جمعيّات أخرى أصبحت هي الأخرى مطيّة لتحقيق الطموح الشخصيّ والتأثير في نوايا التصويت. أمّا الجامع بين كلّ هذه الجمعيّات الخيريّة فهو إصرارها على «مسرحة» العمل الخيريّ وتوظيفها لصور المنتفعين بالخدمات من أجل التموقع ونيل مزيد من الامتيازات. ولا يهمّ إن انتهكت كرامة المعوزين الذين يقبلون على موائد «الرحمة» أو تحوّلت أجساد المختونين «مجانّا» إلى فضاء للعرض، بل لا يهمّ الوصم وما تخلّفه هذه الأحداث في نفوس الصبيان . فكم من فتى عيّره خلاّنه بأنّه «ختن في الشعبة» ...
إنّ هذه الممارسات القائمة على استغلال الآخرين وتحويلهم إلى أدوات لتحقيق أغراض متعدّدة كالاستقطاب في مجال التطرّف العنيف أو التوظيف في الحملات الانتخابية وغيرها يفرض إعادة النظر في ضبط مفهوم العمل الخيريّ وتحديد هويّة الجمعيّة الخيريّة تشريعيّا واجتماعيا فضلا عن ضبط مهامها ومسؤولياتها دون أن نتغافل عن ضرورة إلزامها باحترام الدستور وما نص عليه من قيم وفي مقدمتها الكرامة وكذلك إخضاعها للمراقبة والمساءلة والمحاسبة.
إنّ من مهامّ الجمعيّات التي تروم خدمة الصالح العامّ في الدولة المدنيّة ترسيخ مبدأ العمل التطوّعي لدى جميع الأفراد، وخاصّة الناشئة وحثّهم على العطاء دون مقابل وتشجيعهم على أخذ زمام المبادرات والتفكير في البدائل والانخراط في العمل الجماعيّ إلى غير ذلك. أمّا مسؤولية المواطن فتكمن في ممارسة اليقظة ومطالبة الجمعية برقم التسجيل وقانونها الداخلي إلى غير ذلك من التفاصيل التي تساعده على التمييز بين الجمعيات التي تلتزم بالعمل وفق الضوابط القانونيّة والجمعيات الفاقدة للمصداقية fake charity وتحميه في ذات الوقت من الوقوع ضحيّة التلاعب بالعقول.