ينمّ عن تجاهل للواقع المكشوف للجميع ، و عن عدم معرفة بالتشريع ، لأنه بإمكان المتابع قراءة الخارطة الانتخابية و سبر أغوارها انطلاقا من المفاتيح الّتي تحكم المشهد السياسي و أحوال الأحزاب السياسية ، كما يمكن الإكتفاء بمراجعة أحكام الدستور و المجلة الإنتخابية للرد على دعوات التأجيل و لتوقع النتائج الممكنة.
فالإنتخابات التشريعية طبق أحكام الفصل 56 من الدستور تتم خلال الستين يوما الأخيرة من المدّة النيابية المحدّدة بخمس سنوات، وبإعتبار ان مجلس نواب الشعب أُنتخب في اكتوبر 2014 فإن نهاية المدة النيابية تكون في 25 أكتوبر 2019، وكذلك يكون الأمر بخصوص انتخاب رئيس الجمهورية الّذي تم في 23 نوفمبر 2014 و عليه فإن الإنتخابات التشريعية يجب أن تُجرى قبل 25 أكتوبر و تجرى الرئاسية قبل 23 نوفمبر طبق ما يقتضيه الفصل 75 من الدستور ، ما لم يحصل مانع بسبب خطر داهم يبرّر التمديد بموجب قانون . لذلك يبدو الأمر محسوما بخصوص موعد الإنتخابات، والمطالبة بالتمديد تبقى من قبيل «المضاربة السياسية».
و تدخل ضمن المزايدات السياسية إدعاء بعض الأحزاب بكونها قادرة على الحصول على 109 مقاعد كأغلبية دنيا لتوجيه مجلس نواب الشعب ، و ذلك لأن الجميع على بيّنة من طريقة الإقتراع المحكومة بالقانون الإنتخابي الّتي من الصعب أن تفرز هذه الأغلبية في ظل التشتت الحزبي و تعقيدات معادلة بدعة أفضل «البقايا»، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، بالوقوف على ما أثبتته التجربة بخصوص عدم إلتزام النواب بانتماءاتهم الحزبية، في ظل توفّر إمكانية «السياحة الحزبية» وسهولة إنقلاب النواب على إرادة ناخبيهم و ما ينشأ عن ذلك من تذبذب وعدم استقرار في الأغلبية الماسكة بالقرار كما حصل في المدّة النيابية الحالية.
في هذه المدّة النيابية و حتي في مدّة التأسيس ، وقف التونسيون على بعض أحكام «الديمقراطية التونسية» الّتي بدا فيها الحس الوطني هشّا و ضعيفا ، بسبب تغليب المتصدرين للمشهد السياسي لمصالحهم الضيّقة، الأمر الّذي جعلهم يديرون الأزمة تلو الأزمة، مغدقين على الشعب بسيول وعود لم تتحقق أو تحقّقت بوادرها، بمزيد من التداين و باللّجوء إلى حلول ترقيعية استنسخت أزمات جديدة.
لذلك يمكن الجزم بأنه من الوهم ، القول بأنّ أي حزب من الأحزاب الموجودة على الساحة قادر على تحقيق نتائج انتخابية توفّر الأغلبية المريحة لحكم تونس في المدّة النيابية القادمة.ومن الصعب أيضا أن تبرز شخصية جامعة قادرة على خلق التوازن السياسي واستعادة هيبة الدولة.
والسبب الرئيسي في كل ذلك، أن النظام السياسي القائم على أسس القواعد الدستورية الجديدة، يحمل في رحمه أسباب فشله وعدم إستقراره، لذلك لن تقدر أي شخصية على لعب دور ريادي، دون تعديل أحكام الدستور ومراجعة أحكام المجلة الانتخابية، ومن هنا صح القول بأن فترة الترويكا هيأت أسباب الإنخرام السياسي وزرعت بذور إضعاف سلطة الدولة ، وذلك لغياب إيمان حركة النهضة بالدولة المدنية الحديثة وقناعتها بأنها المستفيدة من التفكك ،ولعدم قدرة نداء تونس على بناء حزب مهيكل قوي و لغياب النضج السياسي و الفكرى للقوى المعارضة وعدم امتلاكها لرؤية استراتيجية واضحة ومقنعة.
لقد دخلت تونس في حلقة مفرغة تزرع الخوف من المستقبل ، لأن تعديل الدستور غير متاح دون أغلبية ديمقراطية واسعة ، و تحقيق هذه الأغلبية غير ممكن دون توحد القوى الوطنية المتفقة على ضرورة تعديل النظام السياسي بالكيفية الّتي تسمح بممارسة السلطة بالانسجام اللاّزم فكرا وأسلوبا . كما افتقدت تونس الشخصية الجامعة المترفّعة عن الخصام السياسي و الحائزة للحس الوطني القوي و الّتي يمكن أن تكون مدعومة من أغلب القوى السياسية.
إن ما يلمسه المواطن اليوم أن القوى السياسية الحاكمة خذلته، وأن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن النواب الّذين تمّ اختيارهم فشلوا في تحقيق المطلوب، لذلك يسود الاعتقاد لدى فئات واسعة من الشعب أن التغيير لن يأتي ممّن يحكمون اليوم، و هو ما سيجعلها حاضرة بالغياب ،أو تلجأ إلى من يدغدغ آمالها لدى المستقلين. وفي كلتي الحالتين لن يحصل التغيير بسبب الأسبقية الّتي يمنحها القانون الانتخابي للأحزاب القوية. وتبقى الكرة في ملعب «النخبة الديمقراطية» الّتي بقيت تلوك الحلول و تُفشلها، وتفتحُ الأبواب و تغلقها، وتشعل النيران لتحترق بها ..