مازال التونسيون لا يريدون أن يصدقوا بأن حكومتهم التي تدّعي إعادة الاعتبار للدبلوماسية التونسية وفق مبادئها الثابتة بأنها هي ذاتها التي تقحمهم في سياسة المحاور والأحلاف الإقليمية التي طالما نأت بلادنا بنفسها عنها إلى حدود ديبلوماسية المرزوقي المصطفة قطريا وتركيا إلى ديبلوماسية قائد السبسي المصطفة اليوم بوضوح سعوديا..
لا نريد أن نناقش هنا الدور الوطني والإقليمي لحزب الله ولا كذلك خلفيات الصراع السعودي الإيراني فقد أتينا على بعض أبعاده يوم أمس.. نريد أن نناقش دوافع وخفايا الديبلوماسية التونسية..
قبل الثورة كانت تونس تسعى لتجنب سياسة المحاور دون أن يعني ذلك ضمورا في الموقف الديبلوماسي وهنا نتكلم عن فترة بورقيبة تحديدا حيث كان لتونس صوت يتجاوز حجمها الديمغرافي والاقتصادي.. ولم يكن هذا الصوت مرتبطا فقط بالشخصية الاستثنائية لبورقيبة بل وكذلك بما يمكن أن نسميه الاستثناء التونسي في العالم العربي.. فقد كان لهذا الاستثناء وزن في قوة الصوت التونسي وفي الإنصات له وجعل من تونس إحدى العواصم الديبلوماسية المهمة في العالم العربي.
لقد فقدنا مع بن علي هذه القوة بل وصارت نقطة ضعف متعاظمة بحكم ارتباط صورة تونس بالاستبداد وبالنظام العائلي المافيوزي..
وظننا جميعا أن تونس ستستعيد موقعا ديبلوماسيا متميزا بحكم الزخم الأخلاقي للثورة ولقيمها الجديدة.. ولكن ومنذ البدايات سقطنا في ديبلوماسية المحاور وخدمنا، بوعي أو دون وعي لا يهم، الاستراتيجيات الإقليمية لقطر ولتركيا ومن ورائهما الدول الكبرى لا سيما في الملف السوري...
ثم انتقلنا من سياسة المحاور إلى سياسة الأهواء والنزوات الشخصية والتقلبات المضحكة المبكية للرئيس المؤقت المنصف المرزوقي..
لقد اعتقدنا جميعا أننا سنقطع مع السلطة الجديدة المنتخبة في خريف 2014 مع الديبلوماسية الرعناء التي لا تقيم التوازن المطلوب بين المصالح الحيوية للبلاد والدور الأخلاقي الجديد لتونس الثورة.. ولكن شيئا من هذا لم يحصل إذ سرعان ما سقطنا مجددا في سياسة المحاور.. ولكن الأسباب التي دعتنا إلى هذا مخجلة إلى حدّ بعيد..
لقد كانت هنالك مراهنة على المحور السعودي الإماراتي لضمان تدفق استثمارات خليجية هامة تنعش الاقتصاد المترهّل.. وكان هذا هو تصورنا للديبلوماسية الاقتصادية.. ديبلوماسية تقايض المواقف بالاستثمارات المرتقبة.. فتورطنا في مواقف دون أن نجلب استثمارا واحدا ذا معنى.. وحتى لو جلبنا بعض الاستثمارات فلا يمكن أن نقبل أن نؤسس ديبلوماسية على «الفِلْس» لأن هذا رديف الإفلاس الأخلاقي لها..
عندما نقول بأنه من ثوابت ديبلوماسيتنا هو حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الغير واجتناب المحاور والأحلاف، فينبغي أن نربط القول بالفعل لا أن نبقى في شعارات غائمة تكذبها الأحداث يوما بعد آخر..
لا يجب أن ننسى أن تونس دخلت في شهر ديسمبر الماضي في «تحالف إسلامي عسكري» تقوده السعودية وهذا التحالف الموجه في الظاهر نحو الإرهاب إنما كان في الحقيقة لبنة أساسية للمساواة بين الإرهاب السلفي الجهادي المعولم والمتمثل في داعش والقاعدة والتنظيمات الإرهابية الشبيهة بهما وكل التيارات والتنظيمات والمليشيات الشيعية (حزب الله بلبنان وحركة الحوثيين باليمن والحشد الشيعي بالعراق والحراك الشيعي بالبحرين) وهكذا يصبح الخطر الأساسي الذي يهدد المنطقة هو الخطر الشيعي ومن ورائه إيران وأذرعتها الطائفية والسياسية في العالم العربي وحلفائها في الخارج.. هذا التحالف رفضت دولة كالجزائر الانخراط فيه ولكن تونس لم تنبس ببنت شفة ودخلت فيه باستحياء مدعية أنها غير معنية بالجانب العسكري في تحالف «إسلامي عسكري» وحتى عندما دعيت، في إطار هذا التحالف، إلى مناورات مشتركة أرسلت ملاحظين اثنين ظنّا منها أنها تمسك العصا من الوسط فلا تغضب السعودية قائدة التحالف ولا تشهر عدوانا على إيران وحلفائها..
وعندما نستمع إلى تبريرات السيد خميس الجهيناوي وزير الخارجية لما حصل تتمّلكنا الدهشة... لقد اعتبر وزير الخارجية يوم أمس على قناة الحوار التونسي مع الزميلة مريم بالقاضي بأن ما حصل هو مجرد «بيان» وليس «قرار» وأن «البيان» انما نسب فقط لحزب اللّه بعض الأعمال الارهابية ولم يصنفه كتنظيم ارهابي والصواب أن البيان تحدث عن «حزب اللّه الارهابي» أما أن بلادنا لا يمكن لها مخالفة «الاجماع العربي» فذلك ما لا يمكن أن نفهمه بداية لعدم وجود الاجماع باعتبار تحفظ العراق ولبنان وثانيا كيف نقبل بأن ترتهن مواقفنا بمواقف غيرنا؟! أما الحديث عن عدم إنكار إيران وحزب اللّه موقف تونس فتلك نقطة تحسب ضدنا لا معنا لأن ذلك يؤشر على حقيقة الوزن التونسي لا غير.
لا نلوم ديبلوماسيينا فقط على إقحام بلادنا في سياسة محاور لا ناقة لنا فيها ولا جمل ولكن نلومها أيضا وكذلك على وضعها بين قوسين لزخم الثورة التونسية ولعدم تحويل قيمها الأساسية: الحرية والديمقراطية والكرامة إلى عناصر ديبلوماسية فاعلة.. فكيف نفهم أن تغيب هذه القيم عن كل خطواتنا ومواقفنا الديبلوماسية وأن يتصرّف ساستنا وكأننا بلاد ترزح تحت نير الاستبداد.. فكيف لا تحتج ديبلوماسيتنا على الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تحصل شرقا وغربا؟! وكيف لا تنطق وفق قيم الثورة التونسية مع مراعاة مصالحنا الاستراتيجية؟ وكأننا بساستنا يعتقدون أن ضمان مصالحنا إنما يتم بنسيان قيمنا ومبادئنا!!
نحن لا ندعو إلى ديبلوماسية رومنسية ملائكية تقدّم القيم وتنسى المصالح.. نحن نطالب بأن تكون ديبلوماسيتنا وفية وقيّمة على مصالحنا وقيمنا في نفس الوقت.. ينبغي أن يكون صوت تونس قويا ومرتفعا في المحافل الأممية.. ولا يمكن لأول ديمقراطية عربية فعلية أن تكون تابعة لأحد ولا مصطفة وراء أحد.. وفي ذلك أيضا تحقيق مصالحنا الاقتصادية والأمنية الحيوية.. نحن مع كل شراكة دولية وجهد أممي لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة ولكن دون التموقع في محاور وأحلاف لا علاقة لنا بدواعيها وخلفياتها..
يجب أن يقتنع ساستنا نهائيا بأنّ كل ديبلوماسية تطمح إلى جلب «الفِلْس» فقط سيكون مآلها الوحيد الإفلاس المادي والمعنوي..