الذي «لا شريك له»... وكأنّ هؤلاء ما استطاعوا القطع مع تاريخ من التمركز على الذات... تاريخ أدّى إلى «تأليه الزعيم»... وكأنّهم لم يتعلّموا من الدروس المستخلصة من مسار تعاقبت عليه حكومات مختلفة سمتها التعثّر. وسيّان من طلع علينا كالبدر المنير أو من دخل مستأسدا في عرض فرجويّ اريد له أن يكون مُبهرا أو من ركبت الفرس تشبّها بالرجال مكرّسة قاعدة التماهي مع السلطة الذكوريّة.
ومن الثابت أنّ من يتمركز على ذاته/ها لا يجد غضاضة في توظيف الآخرين إذ أنّه يَتمثّل نفسه على أساس أنّه المفكّر العبقريّ والسياسيّ «الداهية» والوطنيّ والحكيم... وليس الآخر، في مثل هذه الحالة، سوى أداة في خدمة مشروعه السلطويّ. وبعد الاستثمار في النساء، وخاصّة المنتميات إلى الطبقة المعوزة، ودغدغة مشاعرهنّ بقطع الوعود بتحسين المقدرة الشرائية والتوجّه إلى الأخريات بخطاب فيه تأكيد على تأمين الحريات الفرديّة وضمان مزيد من الحقوق للنساء ... جاءت فرصة الاستثمار في الشباب، فصاروا علامة دالة على «تشبيب» الحزب، وبثّ رسائل الأمل فكانوا «يؤثثون» الاجتماعات: يصفّقون ويعزفون الموسيقى، ويضفون شيئا من «الإبهار» على المشهد.. وفي السياق نفسه مثّل «الدساترة- التجمّعيون» رصيدا آخر تُوجّه إليه رسائل تلتزم بإحياء الماضي التليد واسترجاع السلطة التي تشظّت وصارت في أيدي «الخوانجية» ومن والاهم.
وبما أنّ كلّ خطاب يتأسّس على السلطة فإنّ لغة السياسيّ صارت وسيلة لرصد أشكال تضخّم الأنوات التي تتناسى في لحظة شعارات الديمقراطية التشاركية لتعود إلى «أصلها» فتصوغ خطابا معبّرا عن الفرد / السياسيّ: «أنا نقوللكم»، «عهد عليّ نرجع أولادنا يبنيو البلاد»... وأحيانا يُستعاض عن الأنا بالنحن فيصبح الحديث عن «أحنا المسؤولين»، «أحنا نحبو نفرهدو التوانسه»، «أحنا باش نخلصوكم من الأعداء»... وبما أنّ الأنا لا تجد وسيلة لفرض ذاتها إلاّ من خلال هدم الآخر فإنّها تؤسّس خطابها على صناعة الأعداء وبثّ رسائل الترهيب والوعد والوعيد أو رسائل التشكيك والفضح و«التقزيم». وهكذا يصبح السياسيّ متورّطا في إنتاج خطاب الكراهيّة متناسيا قواعد العمل السياسيّ الذي يفرض التنافس النزيه بين الخصوم متجاهلا ما ورد في الاتفاقيات والمعاهدات من تحذير من مخاطر الانحراف بالفعل السياسيّ نحو فضاء إنتاج العنف.
ولسائل أن يسأل لِمَ لَمْ يتخلّص أهل السياسة وأتباعهم من شخصنة العمل السياسيّ؟ لم عجزوا عن تركيز الحملات الانتخابية على قاعدة البرامج التي تعرض الحلول والبدائل وتقطع مع نشر الوعود الزائفة؟
لا يبني «الزعيم الأكبر» تاريخ التعدّد الحزبيّ، ولا يستطيع «الجنرال بن عليّ» أن يؤسس لتجارب العمل السياسيّ التشاركيّ ومن ثمّة فعل هذا الموروث فعله فإذا بأحزاب المعارضة تعيد إنتاج نفس الأنموذج حتى وإن حاولت في بعض الحالات ، الخروج عن القاعدة. ثمّ جاءت «الثورة» ووجد الأفراد أنفسهم أمام فضاء يسمح للجميع بأن يعبّروا عن طموحاتهم وهواماتهم فلا غرابة أن يبلغ عدد الأحزاب الحدّ غير المتوقّع ولا عجب أن يعكس الخطاب السياسيّ رؤية الذات لمشروعها القائم على الاستحواذ على السلطة. وحاول «قائد السبسي» أن يكون الأب المجمّع الذي يضمّ إلى حضنه من هم في الشتات ولكنّه فشل في لجم الطموحات وفي توحيد الأصوات وفي صهر الأنوات في مشروع يؤسس للعمل الجماعيّ. وشذّت النهضة عن القاعدة لأنّ بنيتها ترتكز على ضوابط حكمت «التنظيم» وجعلته قادرا على تحقيق الاستمرارية وليس الغنوشي إلاّ المسؤول عن تحويل السلطة إلى مشروع شموليّ.
ولم يستوعب أهل السياسة الدرس بعد تشظّي النداء بل وجدنا «العائدين» و«الجدد» يتموقعون بنفس الطريقة ، أي باعتبارهم زعماء المرحلة. وهكذا ظلّ المشروع الوحيد المعروض على الناخبين: التعويل على وعود الشخص/الفرد/المخلّص/المنقذ.
فأنّى السبيل إلى الخروج من مرحلة «تمركز الأحزاب على الأشخاص» إلى مرحلة «تمركز الأحزاب على المشاريع» ؟ و متى يصبح بإمكاننا أن ننتقل من مرحلة «الخطابة» إلى مرحلة الفعل في الواقع؟