في تحولات الإرهاب المعولـم

عملية إرهابية استعراضية في سريلانكا ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثمائة شخص في عيد الفصح المسيحي..

جملة من التفجيرات المتزامنة استهدفت رواد الكنائس والفنادق..

عملية إرهابية تبناها تنظيم داعش الإرهابي الذي اعتمد على مجموعة إرهابية محلية بتعلة الانتقام للضحايا المسلمين الخمسين الذين ذهبوا ضحية لعملية إرهابية قام بها دعاة التفوق الأبيض في نيوزيلندا..

الرسالة واضحة : داعش الإرهابي لم ينته وهو وإن مني بهزيمة نكراء في العراق وسوريا حيث فقد كل معاقل دولته الموهومة إلا أنه لم يفقد قدرته على تنفيذ عمليات إرهابية مروعة وانه قادر على تخير المكان الذي يريد وانه هو الذي ينتقم للمسلمين في ظل عجز وصمت وخيانة وكفر كل دول العالم الإسلامي ..

هذه هي رسالة التنظيم الأهم اليوم في الإرهاب السلفي الجهادي المعولم ومفادها أن فقدانه لخلافته الدموية لا يعني نهايته ..ولكن هذه القوة الاستعراضية لا ينبغي أن تخفي عنّا الضربة القاصمة التي تلقاها داعش الإرهابي في المواطن التي اعتقد انه قادر على السيطرة عليها بصفة دائمة..

الفرق الأساسي بين التنظيم الإرهابي الأم القاعدة والتنظيم الارهابي المنشق داعش لا يكمن فقط في إسراف هذا الأخير في الوحشية والقتل والتنكيل واتساع قاعدته فهذه تبقى رغم كل شيء خلافات جزئية بل في اعتقاد مؤسس داعش بأن زمن الخلافة قد حل وانه هو الخليفة وفق «الشروط الشرعية» للخلافة بما في ذلك النسب القرشي ولكن الشرط الأساسي للخلافة هو إمكانية دوام حكم مستقر على رقعة كبيرة تتجاوز حدود الدولة الواحدة وتفرض نفسها على بقية الدول الأخرى ، دولة لها كل علامات السيادة بما في ذلك الجنسية والعملة ..

هذا الكابوس الداعشي لم يصمد كثيرا في ارض الواقع فبعد تمدد سريع في 2014 في العراق بداية ثم سوريا وتأسيس ما سمي في البداية بتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام (ومنه داعش ) ليصبح فيما بعد «تنظيم الدولة الإسلامية» وإيهامه الملتحقين به بأنهم «يهاجرون» إلى دولة الخلافة تبدد هذا الوهم واتضح هزال هذه الكذبة الكبيرة فالإرهاب لا ولن يستطيع أن يسيطر على ارض بصفة دائمة ولا أن تكون له ما يشبه مؤسسات الدولة ، الإرهاب لا يستطيع إلا العيش في المخابئ والمغاور أي أن كل «التأصيل» النظري لتنظيم داعش الإرهابي قد سقط في الماء ولهذا نراه يريد استرداد شيء من جاذبيته بعمليات إرهابية استعراضية كتلك التي جدت بسريلانكا لعله يقنع جموع الإرهابيين بالفعل أو بالقوة انه مازال قادرا على إيلام «الأعداء» وأن انهيار «دولته» و«سقوط» خلافته إن هو إلا ابتلاء ظرفي وتراجع تكتيكي فقط لا غير ..

أي أن الهدف الأساسي لتنظيم داعش هو الإبقاء على الحد الأدنى من الحضور ومن الجاذبية داخل الساحة السلفية الجهادية المعولمة لأنه يدرك انه لو خسر هذه المعركة فسينتهي هذا التنظيم الإرهابي إلى الأبد ..

ولكن ما لا ينبغي الاستهانة به هو امتلاك كل التنظيمات الإرهابية لسلاح فتاك : إرهاب الناس وتنظيم القتل الاستعراضي في أماكن متباعدة وفي دول ليست بالضرورة مستعدة تمام الاستعداد لاستباق مثل هذه العمليات..

هذا هو السلاح الإرهابي الأساسي ، فهذه الجماعات تحتاج في نهاية الأمر إلى شيء ، من المال وعدد محدود جدا من المؤمنين بقضيتها لتنظم بين الفينة والأخرى عمليات إرهابية من المنظمة جدا كما حصل في سريلانكا إلى تلك التي تقوم بها ذئاب منفردة وبسلاح ابيض أو بسيارة تعد لدهس المارة ..

وهذا الصنف من الإرهاب يصعب القضاء عليه بصفة كلية لأنه يقتات من هامش الهامش في كل شيء ، والقضاء النهائي عليه يعني القضاء على إمكانية وجود مؤمنين بقضية الإرهاب سواء أكان ذلك عند المسلمين او عند الديانات الأخرى وهذا أمر مستحيل ..

لا أحد يمكنه التنبؤ بديمومة هذا الصنف من الإرهاب ولكن ما نعلمه بصورة شبه يقينية أن الإرهاب القادر على تهديد الدول أو الاستيلاء على أجزاء هامة منها لم يعد قادرا على البقاء بعد تفطن الجميع بأن القضاء عليه أمر متأكد..

ولكن إرهاب الهامش هذا والعمليات الاستعراضية التي يستغل فيها ظروف بعض المناطق في كل بلاد الدنيا ليؤمن لبعض خلاياه وليشتري الضمائر أو الصمت وليتحرك عبر الفضاء الافتراضي وفي ارض الميدان كلما أمكن له ذلك .. هذا الصنف من الإرهاب قد يستمر لسنوات طويلة وربما لبضعة عقود حتى يتم لفظه بشكل كلي ونهائي كما كان الشأن لكل الحركات الإرهابية عبر العالم ..

وما يهمنا نحن هنا في تونس هو إدراكنا لمختلف أزمنة مقاومة الإرهاب فلقد قضينا على الإرهاب كمهدد محتمل للدولة ولكننا لم نقض بعد على وجود كل الجماعات الإرهابية سواء تلك المتحصنة ببعض جبالنا الغربية أو المتخفية في المدن..

لقد نجحت قواتنا الأمنية والعسكرية بفضل التنسيق المطرد بينها واختراقها لبعض هذه الشبكات في القضاء على عدة محاولات في المهد وتفكيك جل الشبكات الداعمة والمساندة للإرهاب ولكن لا وجود لخطر صفر فمازالت هنالك خلايا إرهابية ومازال هنالك من شبابنا من يمني النفس بالالتحاق بها وإن كنا ، حسب التقديرات الأولية ، في مستوى جاذبية اضعف بكثير مما كان عليه الأمر منذ سنتين أو ثلاث ولكن يخطئ من يعتقد بأننا انتهينا من الحرب على الإرهاب أو أن ما تقوم به المؤسستان الأمنية والعسكرية يعفينا من الانخراط جميعا في هذه الحرب المفروضة علينا ..

لا ينبغي أن تتراجع يقظتنا أو أن نعتقد أن السياسات الوقائية غير ضرورية .إن كل شاب أو شابة يمكن تخليصه من الوقوع في براثن الجماعات الإرهابية هو انتصار للبلاد وللحياة وهذا العمل اليومي لمختلف أجهزة الدولة ولنشطاء المجتمع المدني وللعائلات وللأفراد ضروري حتى نقلص إلى الأقصى الكلفة البشرية والمادية للإرهاب ..

إنها اكراهات الحياة زمن الإرهاب .. والحياة تبقى دوما أقوى من كل «صناع الموت».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115