شعار «فليسقط النظام» بقادر على ترسيخ الفعل الثوريّ. ولذلك لم تتحمّس أغلب وسائل الإعلام لمتابعة التجربة السودانيّة ولم يكتب أغلب المثقّفين عن الموضوع ولم يكترثوا بالأمر ولم يحاولوا فهم خصوصيّة الواقع السودانيّ. غير أنّ طبيعة الحراك الشعبيّ في اليومين الأخيرين، فرضت على متابعيّ الشأن العامّ في المنطقة، الاهتمام بما يجري هناك لاسيما بعد اتّخاذ بعض القيادات العسكريّة يوم 6 أفريل، والعهدة على الرواة، قرار حماية المحتجّين السلميين من اعتداءات الشرطة عليهم وتضاعف عدد المشاركين في «الاعتصامات» أمام القيادات العامّة للجيش في عدّة مدن.
ومثّل خروج النساء بأعداد كبيرة وتصدّرهنّ 'منابر الخطابة' وتحفيزهنّ للجماهير ومطالبتهنّ بإسقاط النظام وتحرير المعتقلين ونشرهنّ فيديوهات للتعبئة وبوجه مكشوف علامات فارقة في مسار التجربة السودانيّة. فقد أثبت هؤلاء أنّهنّ قادرات على التخطيط للاحتجاجات وقيادتها ودفع الثمن فلا غرابة أن تعتقل المدافعات عن حقوق الإنسان منذ الأشهر الأولى.
وقد تفسّر مشاركة السودانيّات في الاحتجاجات منذ اندلاعها، بأنّهنّ كنّ أكثر المتضرّرات من نظام قمعيّ صادر حرّياتهنّ وعاملهنّ على أساس أنّهن يمثّلن «نصف إنسان»بل إنّه تعمّد إذلالهنّ من خلال الرجم والجلد والتحكّم في أجسادهنّ وحيواتهنّ. ولهذه الأسباب والوشائج القويّة بين بنية النظام السياسي وبنية المجتمع البطريكيّ كان خروج الفتيات والنساء للمطالبة بالحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة فعلا ثوريّا مشروعا. ويمكن أن نفسّر مشاركة السودانيات في الحراك الشعبيّ بإفادتهنّ من الثورات السابقة والأدوار التي اضطلعت بها النساء من كلّ الأعمار والأيديولوجيات والإثنيات...
غير أنّ المطلّع/ة على تاريخ الحركة النسائية السودانيّة (1940 - 1960)سرعان ما ينتبه إلى أنّ خروج «الكنداكات» (الملكات) خلال هذه السنة ليس مفاجئا أو صادما وكذا ترديدهنّ للأغاني والأشعار الحماسيّة. فقد كان صوت المرأة على امتداد تاريخ السودان ما قبل الاستعماري «معبّرا عن الفاعليّة. وكانت الفتيات والنساء ذوات منزلة رفيعة يتمتعن بسلطة وامتيازات داخل القبائل التي كانت تلقبهنّ بـ«الكنداكات» فهنّ الملكات والأميرات . أمّا بعد الاستقلال فقد انتزعت السودانيات مجموعة من الحقوق السياسيّة فكانت أوّل نائبة في البرلمان فاطمة أحمد إبراهيم سنة1964 وبرزت قيادات في الحزب الشيوعي. أمّا الحقوق الاقتصاديّة فقد تمثّلت في حصول النساء على الأجر المتساوي مع الرجل، ومشاركتهن الفعّالة في دورة الاقتصاد من خلال امتلاك الأراضي والإشراف على زراعتها. وكانت السودانيات من أوائل القاضيات على الصعيد العربيّ.
ولم يتدهور وضع السودانيات إلاّ بعد بروز الأصولية الإسلامية سنة 1989 ممّا دفع فئة منهنّ إلى الهجرة إلى أوروبا بينما ظلّت أخريات يقاومن. وازداد قمع النساء انطلاقا من سنة 1996 إذ صدرت القوانين التي تمنع الاختلاط وتصادر حقوق السودانيات في العمل في بعض القطاعات كالفنادق والمطاعم وصالونات الحلاقة... وتفصل بين الجنسين في وسائل النقل وفي عديد المؤسسات وهكذا منعت الجمعيات النسائية من النشاط وبدأ تطبيق أحكام الشريعة على المتمرّدات صاحبات «البنطالونات.»
تدرك السودانيات وفئة من السودانيين اليوم أنّ مسار التغيير شاقّ وطويل وأنّ إرباك بنية المجتمع الذكوريّ عسير وأنّ الإمكانات محدودة في تكريس المنشود. ويعلم السودانيون والسودانيات أنّ التراتبيّة قد حكمت مسار الثورات وأنّ الفرز قد تحقّق بين الموجة الأولى للثورات والموجة الثانية وبين الثورات التي أطاحت بالرؤساء بسرعة والثورات التي تعثّر مسارها، ويعرف هؤلاء أنّ التدخّل الأجنبيّ صار حقيقة لا مرية فيها ولذلك فإنّهم يخطّطون بدقّة ويضعون البدائل ويعملون بصمت وسريّة ويسعون إلى تحقيق المراد بكلّ عزم من قال إنّ الشعب السوداني ليس مسكونا بحلم التغيير والتحرّر من قيود الذلّ؟