على مدى عمق أزمة حوكمة الدولة إلا أنها تؤكد فقط ما يعلمه كل المعنيين بالأمر وما يرفضون العمل به والإصلاح بمقتضاه.
يكفي أن نعلم أن عدد الموظفين كان في حدود 450.000 سنة 2010 وبلغ في موفى سنة 2018 حوالي 670.000 أي بنسبة زيادة صافية بـ%50 وبكتلة أجور بلغت %15.7 من الناتج الإجمالي الداخلي وهي من أرفع النسب في العالم إن لم تكن اليوم هي الأرفع بإطلاق ويكفي أن نعلم أن هذا المعدل هو دون %10 بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي سنة 2017 وينزل تحت %8 في بلد كألمانيا .. بالطبع نحن لا نقارن أجور الموظفين في تونس بنظرائهم في الدول المتقدمة ولكن بالوقع الذي تمثله بالنسبة لمجموع القيمة المضافة في البلاد ..
يكفي هذا الرقم للدلالة على خور كل ما يردد في مواقع إعلامية وسياسية عدة بان الدولة التونسية بصدد التفريط في المنظومة العمومية .. الحقيقة التي لا نريد الاعتراف بها هي أن الإنفاق العمومي في تونس مرتفع جدا ولكنه عشوائي وغير منظم وذو جدوى عملية وخدماتية ضعيفة ..
وضعنا لم يكن مثاليا سنة 2010 ولكنه ازداد سوءا بعدها بالانتدابات العشوائية التي حصلت تحت ضغط الاحتجاجات الاجتماعية أو النقابية أو بمقتضى العفو التشريعي العام ولم تتم في الأقسام والإدارات ذات الأولوية بما نشأ عنه خلل متفاقم : نقص فادح في مواقع حساسة بل وحيوية وكثافة إدارية في مواقع أخرى تعيق حتى انسيابية العمل العادي فيها..
النقاش العام في تونس غير سوي لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار كل معطيات قضية ما بصفة متكاملة ومتضامنة..
يريد البعض أن يقول أن الانفاق العمومي وحده هو بلسم كل جراحاتنا ومشاكلنا.. وانه وحده هو سبب انهيار منظوماتنا العمومية من صحة وتعليم ونقل وتغطية اجتماعية ..ولكن موارد البلاد محدودة أيا كانت السياسات التي سنتبعها .. لو تحدثنا فقط عـن ضرورة زيادة الإنفاق العمومي سنكون كذلك الذي يبيع السراب للعطاشى..
لا نقول بأن بعض القطاعات ، كالصحة والتعليم أساسا ، لا تستوجب إنفاقا عموميا إضافيا بصفة جدية ولكن شريطة أن نعيد التفكير في كل مجالات الإنفاق العمومي ..
لا يمكن أن نفهم أن بلادا كتونس تستوجب وظيفة عمومية بمثل هذا العدد وبمثل هذه الفاعلية المحدودة ..
يكفي أن نعلم أن عدد الأساتذة في الإعدادي والثانوي قد تضاعف من سنة 2000 إلى سنة 2018 بينما بقي التلاميذ في نفس المستوى.. والحال أن هنالك إجماعا على تردي المنظومة التربوية بما يعني أن الانتداب وضخ الأموال وحده لا يعني شيئا..
تحدثت الحكومة عن إصلاح الوظيفة العمومية بإدخال حركية أفقية وعمودية على الموظفين أي بعبارات بسيطة ضبط احتياجات كل وزارة وكل إدارة وكل قسم ثم ادخال الحركية الضرورية ما بين الوزارات بداية وما بين الجهات ثانيا وهذا، نظريا، سوف يوفر إمكانيات بشرية للإدارات التي تستحقها وسيعيد ادارات اخرى للحجم الضروري للفاعلية وسيجعل من عمليات الانتداب القادمة مركزة فقط على حاجياتنا الفعلية مع اقتصاد حوالي %15 من مجموع الوظائف ، ولكن هذا الإصلاح المادي والبشري على أهميته القصوى لا يكفي ففي الحوكمة هنالك أيضا حسن التصرف في الموارد غير المادية وفي جودة كل منظومة وفي حلقة القرارات والأوامر وفي وضع الكفاءات في موقعها الحقيقي من أعلى هرم السلطة إلى أدنى حلقات منظومة الإدارة ..
هذا الإصلاح الجوهري يستوجب هبّة أخلاقية وقرارا جماعيا ببناء دولة قوية وعادلة لا يستضعفها أحد من قبائل تونس المتكاثرة والمتناحرة..
لقد تعددت الكوارث التي تعيشها البلاد خلال هذه الأشهر الأخيرة كوارث ستتكاثر للأسف الشديد لان كل منظوماتنا بصدد التدهور السريع ..
مرة أخرى هل أن الطبقة السياسية الحاكمة أو الطامحة للحكم مدركة لكل هذه المخاطر ؟
وهل لديها الإرادة الفعلية لإيقاف النزيف أم أنها همها الوحيد الاستمرار في السلطة او الوصول اليها ؟
ربّ ضارة نافعة .. لقد أفقنا جميعا على حجم الكوارث المتغلغلة في البلاد ولكن الحكيم لا ينظر إلى الإصبع فقط بل إلى ما يشير إليه الإصبع..
الوظيفة العمومية: الإصلاح الذي طال انتظاره
- بقلم زياد كريشان
- 13:20 14/03/2019
- 2370 عدد المشاهدات
الأرقام التي قدمتها يوم أمس السيدة فضيلة الدريدي رئيسـة الهيئـة العامـة للوظيفة العمومية رغم كونها صادمة وتؤشر