فيه تعفن جرثومي (infection nosocomiale) أي تعفن حصل بالمستشفى إما خلال إعداد المستحضر الطبي لحقنه لهؤلاء الرضع في ما يسمى بالغرفة البيضاء والتي يجب أن تكون شروط تعقيمها وفق شروط قاعة العمليات أو أن التعفن قد حصل في الغرفة التي يوضع فيها هؤلاء الرضع..
سوف تؤكد التحقيقات الفنية صلب وزارة الصحة وكذلك التحقيق القضائي حقيقة ما جرى وطبيعة الاخلالات التي حصلت وتوصيف التهم وتحميل المسؤوليات وما يترتب عنها قضائيا..
كنّا نود لو أننا تمكنا من إقرار قانون للأخطاء الطبية يحمي كل المتدخلين في العملية الطبية ويضمن كذلك حقوق المتضررين ويرتب العقاب لكل أصناف التجاوزات.. ولكن في غياب هذا القانون الذي كثر الحديث عنه منذ سنتين بسبب خطأ طبي أدى إلى وفاة شخص سنجد أنفسنا مرة أخرى مضطرين لاستعمال المجلة الجزائية وسوف نكتشف بعد التحقيق القضائي مرة أخرى أنها غير ملائمة لمثل هذا الصنف من القضايا..
ولكن أيا كانت نتيجة التحقيق فنحن أمام كارثة وطنية وصدمة نفسية هزت مشاعر كل التونسيين وينبغي أن نستنتج منها كل الدروس والعبر حتى لا نبقى في مستوى ردود الفعل العاطفية أو التوظيفات السياسوية لمآسي الناس وأحزانهم..
في هذه القضية، كما في غيرها، هنالك الأسباب والمسؤوليات المباشرة والتي تكون وحدها من أنظار التحقيق والقضاء وهناك أيضا المسؤوليات والأسباب البعيدة والتي دون فهمها لا يمكننا أن نستوعب جيدا ما حصل حتى نغير من السياسات ومن طرق الحوكمة ونتجنب في المستقبل، ما أمكن، حصول مثل هذه الكوارث..
عادة ما نعتقد في بلادنا أن تردي المنظومة الصحية مثلا إنما يعود إلى أمرين أساسيين : ضعف الموارد المادية من جهة والفساد المالي والإداري من جهة أخرى وانه يكفي أن نضخ الموارد الضرورية وأن نحارب الفساد حتى نحصن المنظومة الصحية، وغيرها، من هذه الأخطاء والمآسي ..
المعطيات الأولية التي كشفت عنها السيدة سنية بالشيخ وزيرة الشباب والرياضة ووزيرة الصحة بالنيابة تؤكد، مبدئيا، أننا لسنا أمام إحدى هاتين الحالتين أي ضعف الموارد أو فساد مالي وإداري رغم أن التحقيق التقني والقضائي سيبحثان حتما في كل الاحتمالات الواردة..
هل سنتمكن فعلا من معرفة كل جزئيات عملية التعقيم وهل حصل خطأ بشري لأحد المتدخلين أم لا ؟ لا ندري هل أن المسؤوليات الشخصية سيتم تحديدها بشكل دقيق وقطعي أم أن التحقيق سيصل إلى تحديد مواطن القصور دون قدرة على تعيين أشخاص بعينهم وتحميلهم المسؤولية الجزائية لهذا القصور ..
البحث عن الأسباب المباشرة مهم للغاية ولكن ينبغي كذلك أن نبحث عن الأسباب البعيدة وأن نبحث في تراجع منظومتنا الصحية وكل منظوماتنا أيضا ..
نتحدث كما أسلفنا عن ضعف الإمكانيات والفساد لتفسير تراجع منظوماتنا وهذا فيه الكثير من الصحة ولكننا لا نتحدث بالشكل الكافي عن مسألة حوكمة مختلف منظوماتنا أي التصرف العقلاني والأنجع في مواردنا المادية والبشرية وفي سلسلة القيادة وفي طريقة اتخاذ القرار ..
لو نريد اليوم إنقاذ مختلف منظوماتنا من الانهيار لابد أن نقف على كل العناصر المكونة لحوكمة هذه المنظومات ..
لاشك لدينا في أن العديد من المشتغلين في كل قطاعات البلاد يحدوهم حرص على القيام بواجبهم المهني بكل تفان وإخلاص .. ولكن إخلاص الأفراد ، مهما عظم ، لا يعوض فاعلية المنظومة تماما كوجود لاعبين ممتازين لا يكفي لتشكيل فريق قادر على الانتصار لأن الإمكانيات اللامادية ، أي الحوكمة، هي أهم في المنظومات من الإمكانيات المادية لوحدها ..
هل يمكن أن نضاعف الإمكانيات المادية لكل منظوماتنا الاجتماعية ؟ الجواب واضح : لا يمكن لبلاد وذلك أيا كان حكامها وأيا كانت سياساتها ان تضاعف الإمكانيات المادية في كل هذه المنظومات على المدى القصير.. فالحل لا يكمن في الانتداب وفي التحسين النوعي لكل البنايات والتجهيزات..
هذه نظرة طوباوية تعتقد ان موارد البلاد غير محدودة .. فالحوكمة لا توفر أموالا بصفة مباشرة ولكنها توفر التصرف الحكيم بمقاومة كل ضياع ممكن و اخذ القرارات اللازمة في وقتها ومتابعتها وفرض معايير الجودة بصفة عملية لا فقط في وثائق الإجراءات ..
صاحب القرار، ايا كان مستوى قراره، هو دوما المسؤول عن المنظومة ولكن هل توافقنا على إعطاء صاحب القرار كل إمكانيات تنفيذ القرار؟ هل نددنا بالوضوح الكافي بكل من يدمر إمكانيات البلاد ويمنعها من استثمار خيراتها المحدودة؟
هل وقفنا بوضوح ضد ضرب سلسلة القيادة التي عمد إليها بعض النقابيين في قطاعات حساسة في البلاد بحجة الشراكة في صنع القرار؟
هل تمكنا من ايقاف كل عمليات الاعتداء على منظومتنا الصحية والتربوية.. ضد هذه البلطجة المنظمة التي يعمد إليه بعض المواطنين والتي جعلت كفاءات كبيرة في الطب وغيره تقرر مغادرة البلاد احتجاجا على تواضع الأجور بل على الظروف النفسية والمعنوية المتردية لعملهم..
ما يزيد في انهيار منظوماتنا هذه هو ميلنا المرضي للبحث عن كبش فداء فبعضنا يتهجم ويعتدي بالعنف على الأطباء والممرضين والعاملين بالمستشفيات العمومية ظنا منهم بانهم هم المسؤولون شخصيا على تردي الخدمات الصحية ..
نحن شعب ونخب وقيادات سياسية نريد الشيء ونقضيه .. نريد إنفاقا عموميا استثنائيا دون اقتراض ودون قيام كل مواطن بواجبه الضريبي، لا احد فينا يريد الخروج من منطقة رفاهة وان نرى ان كل إصلاح فعلي حقيقي يبدأ بتغيير العادات وبالمحاسبة الفعلية وبوضع الكفاءات في موقع المسؤوليات لا الأصدقاء والموالين..
لو نريد إنقاذ ما تبقى من منظومات البلاد علينا ان نتوقف قليلا عن هذا القذف الصاروخي المتبادل وان نعلم ان انقاذ البلاد لا يمكن ان يتم في مناخ حرب أهلية باردة وان لا احد يملك لوحده الحلول لكل جراحات بلادنا وازماتها التي أضحت كلها هيكلية وان نبتعد عن الانطباعية وبيع الاوهام للتونسيين..
فيكفي أن نعلم على سبيل المثال ان عدد الموظفين ما بين 2010 و2018 قد ازداد بـ%50 ولكن هل ازدادت فاعلية الخدمات العمومية ؟ الإجماع قائم على عكس ذلك بما يعني ان الانتداب العشوائي ليس هو الحل فهو مضيعة للحوكمة وللمال.. الم يحن بعد الوقت لإعادة التفكير في ترشيد كامل أجهزة الدولة والخدمات العمومية المرتبطة بها ؟..
لو أردنا ان نستخلص كل الدروس من هذه الكارثة التي حلت ببلادنا لابد أن نتحلى جميعنا بالنزاهة الضرورية لنقف على كل مواطن الخلل في الحوكمة وان نتفق على كلفة إصلاح كل منظومة وان نقتنع بان لكل كلفة ثمنا وأنّ المر دودية العقلانية لكل منظومة هي ما يضمن الديمومة والتحسن ثم التميز فيما بعد..
بإمكاننا بالطبع ان نواصل مسلسل الشيطنة المتبادلة واتهام المدرسين او الأطباء او الإعلاميين أو السياسيين او التونسيين أجمعين اما لو أردنا إنقاذ البلاد فعلينا بدءا الإقلاع عن كل هذا وان نجند كل طاقاتنا نحو العمل وخلق الثروة وتجويد الحوكمة .. هذا بالطبع لو أردنا المحافظة على أساسيات عيشنا المشترك وبناء الثقة الضرورية للنهوض أما هذا التشكيك المتبادل في كل شيء فلن يؤذن الا بالخراب .