منذ مدّة حول حقّ التونسيّة في الترشّح لمنصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية المقبلة. والجامع بين كلّ هذه المطالب التي تتبنّاها بعض مكوّنات المجتمع التونسيّ هو الرغبة في ترسيخ حزمة من الحقوق السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة المتشابكة. بيد أنّ الجدل المحتدم في فضاءات مختلفة حول حقوق الإنسان للنساء يفضح وسيفضح حجم الصور النمطيّة المترسّخة في المتخيّل الجمعيّ وكلّ التمثلات السائدة بخصوص الأنوثة/الذكورة، وسيشير في الآن ذاته إلى الفجوات: الفجوة الجندريّة على مستوى نسبة حضور النساء في مواقع صنع القرار مقارنة بالحضور الذكوريّ.
ففي بلد يفتخر القوم بأنّه طلائعيّ على مستوى التشريعات الخاصّة بحقوق النساء والمكتسبات التي تحصّلت عليها لا يزال حضور النساء في الحكومة مخجلا، يكفي أن نشاهد المجلس الوزاري لنتبيّن الفارق بين الجهود المبذولة من أجل تشريك النساء في الشأن السياسيّ وتمثيليتهنّ المحدودة والحال أنّ سلطة القرار في لبنان كانت أكثر جرأة عندما منحت وزارة سياديّة لامرأة فكانت أوّل مرّة تتولّى فيها سيّدة رئاسة وزارة الداخليّة وهنا جاز الحديث عن الفجوة بين الإرادة السياسيّة اللبنانية وبقيّة الإرادات السياسيّة في العالم العربيّ.
وتلوح الفجوة أيضا بين التشريعات والممارسات والخطابات. فبالرغم من سنّ قانون لتجريم العنف المسلّط على الفتيات والنساء لانزال نعاين مظاهر العنف المتعدّدة داخل قبّة مجلس الشعب وخارجه وعلى صفحات الفايسبوك يكفي أن نتابع التعليقات بخصوص نشاط «عبير موسي»، بقطع النظر عن مستوى أدائها، حتّى نتبيّن بنية العنف المتأصّلة في العلاقات التفاعلية بين شرائح كبرى من التونسيين، ونتوقّع أنّ الحملات الانتخابية لمختلف المترشحات ستكون مجالا لتعداد حجم منسوب العنف تجاه النساء اللواتي يعتبرن أنّ العمل بالشأن السياسيّ لا يمكن أن يكون امتيازا ذكوريّا.
تبدو الفجوة كذلك في مستوى حضور النساء في كافة المجالات وقدرتهنّ على الفعل في الواقع وما تقدّمه أغلب وسائل الإعلام من برامج ذات توّجه ذكوريّ صرف. ففي منابر الحوار السياسيّ قلّما تشارك النساء وكأنّهنّ لا يملكنّ رأيا وتجربة، بل إنّ بعض وسائل الإعلام ترى أنّ حضور المرأة في برامج التسليّة هو المكان «الطبيعي» لممارسة الإغراء والفتنة ولبيان «الخواء» المعرفيّ...
ومادمنا نتعامل مع النساء باعتبارهنّ نصف مواطنات كتب عليهنّ الاستماع والفرجة والاستهلاك فإنّنا لانزال بصدد تكريس فكرة مفادها أنّ المرأة «دخيلة» على السياسة وغير مرحّب بها في عالم كان الرجال هم من يحدّدون المعايير والقيم والتصوّرات المتحكّمة فيه. وليست الفجوة بين الخطاب السياسيّ العامّ لبعض القيادات والسياسات المتبعة والممارسات إلاّ علامة على استشراء هذه الازدواجية وقوّة المقاومة. يكفي أن نتأمّل في طريقة التعامل مع النساء داخل الاتّحاد ، يكفي أن نتذكّر أنّ المفاوضات الأخيرة مع وزارة التربية بالرغم من تأنيث القطاع، لم تشهد حضور أيّة امرأة نقابيّة، يكفي أن نلاحظ أنّ المعبّرين عن سياسات الجبهة الشعبيّة في مختلف وسائل الإعلام هم رجال.. يكفي أن ندقّق النظر من حولنا في تركيبة لجان مناقشات الأطاريح، والمجالس العلميّة ، وفي تدبير بعض الندوات لندرك أنّ الرهان الأكبر يتجاوز تغيير التشريعات إلى إصلاح شامل لمناهج التربية والتعليم والثقافة والإعلام وغيرها..
إنّها بنية ذهنيّة متكلسة تقوم على تمثلات اجتماعيّة ودينيّة «صلبة» منها أنّ الأصل هو الذكورة وأنّ الأنوثة فرع، ومنها أنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج، وهي «لن تفلح» في إثبات ذاتها مهما فعلت لأنّها آثمة وربيبة الشيطان ولا تتقن إلاّ الفتنة، ومنها أنّ المرأة ضعيفة لا تقوى على العمل المكثّف داخل الهياكل الحزبيّة، ومنها أنّ النساء لا يمكن أن يتآزرنّ بل هنّ تابعات للقرار الذكوريّ... لايزال أمامنا الكثير حتى نغيّر الواقع والعقليات ونرسي معاملات أكثر إنسانية وممارسة أخلاقية تتلاءم مع ثقافة المواطنة.