وراء الجماعات المتشدّدة والنظر في طرق الاستقطاب إلى غير ذلك من المواضيع.بيد أنّ تطوّر الجماعات المتطرّفة ورغبتها في استقطاب النساء دفع الباحثين إلى تغيير مركز الاهتمام فصار «الإرهاب النسائي» موضوعا أثيرا لدى الخبراء في مجال دراسات الإرهاب. ومع مرور الزمن اربكت المواقع وتغيّرت هويات من كانوا في المركز فانتقل الشبّان والنساء إلى الهامش وصار الأطفال في المركز. وها نحن اليوم نواكب بحوثا جديدة تتناول بالدرس خصائص التنشئة الاجتماعية في «دولة الخلافة» وطرق التعليم ومضامينه وصفات المشرفات عليه. ولم يمثّل الصبيان واليافعون موضوعا للدرس فحسب إذ سرعان ما انقلبوا بعد سقوط «دولة الخلافة» إلى موضوع للتفاوض ولا تزال الدول تناقش عودة الأطفال من بؤر التوتّر.وتونس مثلها مثل بقية الدول معنيّة بتقرير مصير «أبناء الخارج»، وإن تلكأت في إتمام الإجراءات.
كان من المتوقّع أن يمثّل هذا الموضوع قضيّة رأي تشغل التونسيين، وتحدث ضجّة في وسائل الإعلام ولكن جاء خبر «أطفال ما سميّ بالمدرسة القرآنية»، أي أبناء ‘الداخل’ فقلب المعادلة فصار الانشغال بمصير هؤلاء المعزولين عن محيطهم الأسريّ والخاضعين لتأديب تطوّع فيه العقول والأجساد الموضوع الرئيس.
ولئن استاء أغلب التونسيين من الطريقة التي كان يتعامل بها المشرفون على هذه المدرسة مع هؤلاء الأطفال والمراهقين فإنّ الفيديوهات التي نشرت بخصوص «تسلّم» الآباء أبناءهم وتعليقهم على ما جرى كشفت المستور، وأثارت الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي إذ تحوّل بعض الأطفال إلى شفرة توّضّح لنا أصل المعضلة. وبعد أن كان الحديث منذ الأسبوع الفارط، عن الخصاصة التي تدفع بعض الأولياء إلى التضحية بأبنائهم باتت أدلجة «ربّ الأسرة» تتصدّر النقاش. فما معنى أن يصرّح أب بأنّه يريد من ابنه أن يتلقّن دروسا داخل مؤسسة لا تخضع لرقابة الدولة؟ وما معنى أن يأمر أب ابنه بارتداء القميص الأفغاني بدعوى أنّه الأب الآمر والمتصرّف في «ملكه»؟
وليس الجدل حول مواقف الآباء وتصوّرهم لطريقة التربية والتعليم ومكان التعلّم، ومدى وعيهم بما يتعرّض له الأطفال من عنف إلاّ فرعا من أصل. فالقضيّة، في نظرنا، أشدّ تعقيدا. فعن طريق «مدرسة الرقاب» أدركنا أنّ الموضوع ليس حالة استثنائية أو شاذّة بل نحن إزاء ظاهرة وسياسة ممنهجة تمأسست منذ سنوات، وهو ما يطرح سؤالا حول مدى مسؤولية عدد من الحكومات التي تعاقبت على الحكم: هل كانت على علم وتغاضت لأنّ الأطفال مثلما بيّنا ذاك في افتتاحية سابقة، لا يمثلّون موضوعا لسياسات الأحزاب أم أنّنا إزاء حالة من سوء التقدير والتراخي والهشاشة؟ ثمّ إن كانت الحكومة التونسيّة قد أمضت على الاتفاقيات الخاصّة بحماية الطفولة حقّ لنا أن نتساءل عن هذه الفجوة بين النصوص والممارسة وعن مدى التزام الدولة بما تمضي عليه؟ وبما أنّ عددا من الوزارات انخرطت في استراتيجية مكافحة التطرّف والإرهاب فالأسئلة التي تفرض نفسها ما هي الخطّة المعتمدة لوقاية الأطفال من ‘الاستقطاب’ ؟وما هي التشريعات الملائمة لضمان حقوق الأطفال حين يكون الوليّ متطرّفا؟ ثمّ كيف قدّرت «مصلحة» الأطفال قانونيّا؟ ولم استغلّت مختلف القيادات هذه الحادثة لخدمة مصالحها لا لمصلحة المعنيين بالأمر؟
صُدم أغلب التونسيين حين استمعوا إلى تصريحات بعض الأولياء وغابت الأسئلة المركزّية : ما وضع الأطفال الذين قدّموا اعترافات وأفشوا الأسرار، ونحن نعلم أنّ الجماعات العضويّة تؤدّب من تعامل مع ممثلّي «الجاهليّة المعاصرة»؟ هل نحن إزاء تشكّل أنموذج أسر تتجلّى فيها الهيمنة الذكوريّة بامتياز؟ فالأب يقرّر ولا صوت للأمّ فهي الوعاء المنتج ... ثمّ لم سكت الأهل عن الاستغلال الجنسيّ وهم يلحون على حفظ القرآن دون تدبّر؟
ليس «نكاح الصبيان» في تقديرنا، وسيلة لاستغلال فروج الأولاد بقدر ما هو طريقة لتطويع الأجساد والعقول وضمان طاعة الولد للأمير. فمن يستطيع أن يرفع وجهه في عين مغتصبه؟ وبذلك تكتمل صناعة جيل من المتطرّفين.. وحين يختطف التعليم الدينيّ وتسرق براءة الطفولة وتنتهك حقوق الأطفال ويتواطأ أهل السياسة مع المشروع التدميري لا يمكن التعويل إلاّ على الناشطين الحقوقيين والمجتمع المدنيّ.. وتلك معركة من بين معاركنا القادمة.