الأوساط الاجتماعية ،إلى درجة أن سفينة تونس أصبحت تترنح بلا ربّان قادر على التحكّم في توازنها رغم تعدّد الربابنة .
فمرّة أخرى – بعد اعتصام الرحيل- يحصل إجماع أغلب الفئات الاجتماعية على رفض خيارات السلطة في تسيير الشأن السياسي و في معالجة المشاكل المتراكمة و الأزمة الّتي تعيشها البلاد ،و كان ذلك بعد الانتهاء من التداول حول ميزانية الدولة لسنة 2019 و المصادقة عليها من مجلس نواب الشعب ، و الدّخول في نطاق المرحلة الإعدادية للاستحقاقات الانتخابية لسنة 2019 .
في هذه المرحلة بدت فعاليات الغضب منظمة وغير عفوية، بما أنها جاءت كردّة فعل على سياسة و مواقف و تشريع و على طرق الحوار حول مطالب اجتماعية و سياسية واقتصادية .
فبعد أن كانت الخشية من تبعات فشل الحوار بين الحكومة من جهة والمركزية النقابية والجامعة العامّة لأساتذة التعليم الثانوي من جهة أخرى ، إتسعت رقعة الغضب لتشمل أصحاب المهن الحرّة و في مقدّمتهم المحامون ، الّذين أضربوا عن العمل طيلة أربعة أيام و نزلوا بمشاركة بقية أصحاب المهن الحرة إلى الشارع للتعبير عن رفضهم للتنقيح الّذي جاء في قانون المالية بخصوص رفع السر المهني .
و لم يتوقف الغضب على قانون المالية بخصوص الموقف من رفع السر المهني فقط بل كان أيضا بسبب التعديلات الّتي حصلت في الوقت بدل الضائع ، و في وقت لاحق بسبب اسقاط مشروع تنقيح نظام الجرايات المدنية والعسكرية للتقاعد و الباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي .
و الملاحظ أن رقعة الغضب لم تنحصر في معارضي الشاهد ، بل شملت جزءا هاما من النخبة و الّتي انخرطت فيها كل الفعاليات تقريبا بما في ذلك أنصار و أتباع النهضة المتحالفة مع يوسف الشاهد ، الّذين انخرطوا في المسيرات الاحتجاجية و لم «يدّخروا جهدا» في مختلف المنابر للاصطفاف إلى جانب الغاضبين ،و كأن «لا ناقة لهم و لا جمل» في الّذي حصل في مجلس نواب الشعب، و في تمرير قانون رفع السر المهني و بقية المسائل المثيرة للاحتجاج. وهذا الموقف غير غريب عن حركة النهضة الّتي تسعى دائما إلى الإحتكام إلى قاعدة «الدخول في الربح والخروج من الخسارة» و من المؤكّد أنها تواصل في نفس هذا التمشي الّذي توقعنا بروزه بعد المصادقة على قانون المالية .
إن شذرات الغضب ظهرت في مختلف الجهات، و تنوعت أسبابها ،لتصبح مصدر توتر و تبرّم إجتماعي يمكن ان تكون آثارهما غير قابلة للاحتواء ، في غياب حلول عاجلة لمعالجة المطالب الأكثر إلحاحا، وفي ظل صمت مطبق من السلطة .
و من المفارقات أن السلطة التنفيذية المتشكّلة من رئاستي الجمهورية والحكومة ، فقدت التواصل الإيجابي المفترض لتسيير شؤون الدولة ، و حصل الشّلل و تعطّل التفاعل لإيجاد الحلول للمآزق و الأزمات في عدد هام من القطاعات الحسّاسة بالبلاد .
مثل هذا المأزق يحصل في الأنظمة البرلمانية الأكثر عراقة و لكن لا يتعطّل سير المؤسّسات وذلك لتأصل الديمقراطية و لسلامة دولة القانون والمؤسّسات ،و لكن لا تتوفر هذه الامكانية في تونس ، لتشوّه نظامها السياسي ولهشاشة مؤسساتها و سير نظامها القانوني ، ولغياب الحس الوطني لأغلبية المتشبثين بمواقع السلطة ، و لإنعدام التجربة في مواجهة الأزمات الاجتماعية في ظل ضعف الإمكانيات والموارد وتفشي مظاهر الفساد ، التّي يتوالى التذكير بأنها ما زالت قائمة .
هذا المأزق في القيادة ، لو استمرّ ، سيضاعف التوتر و يزيد الغضب تأجّجا ، و سيفتح المجال على مصراعيه لقوى الارهاب و القوى المؤازرة لها ، كي تُدخل البلاد في دوامة لا أحد يقدّر عواقبها ومخرجاتها .
لقد سبق أن أكدنا أن الحزام الحقيقي للسلطة، أي سلطة ، لا يكون إّلا في قاعدته الشعبية الواسعة ، و أن كل الأحزمة الظرفية والمبنية على تحقيق المصالح الآنية ، قابلة للتفكّك و الانحلال، في أي لحظة ، الأمر الّذي يستدعي التنبه من خطر سريان الغضب في عموم الناس و فتح امكانيات استغلال عدم الرضا ء و انسداد الأفق ، فتتعفّن الأوضاع و يحصل ما لا تحمد عقباه.
إن سياسة الصمت و الهروب إلى الأمام أو التهرّب من المواجهة لإيجاد الحلول أو الإقناع بإمكانية إيجادها ، لا تزيد الأوضاع ، إلا تأزما و تقهقرا ،فمتى سيعي الماسكون بالسلطة هذا الواقع و متى سيدركون أن الساعة قد دقت لمعالجته بجدية في انتظارتغييره؟
(*) استعارة لكلمات الأخوين الرحباني