في مجلس الشعب، وعلى هامشه: في المنابر التلفزية والمقاهي وأماكن العمل وحتى في وسائل النقل... وكالعادة يعود التلاعن والتراشق بالتهم بين الراغبين في إبداء الرأي، وتتعدّد الشتائم ويغلب السباب على التفاعل الجديّ والرصين. وبذلك يثبت التونسيون مرّة أخرى أنّ الحوار صار عصيّا بينهم وأنّ تبادل وجهات النظر حول القضايا المطروحة عليهم في هذا السياق التاريخي الاجتماعي والسياسي لا يتمّ إلاّ من خلال العنف اللفظي.
وبالتأمل في أشكال تفاعل الفايسبوكيين ننتبه إلى بعض عناصر الجدّة منها تنزيل الشهادات أو الرسائل الشخصية التي تثبت التزام البعض بقسمة ممتلكاته بالتساوي بين الذكور والإناث لإيمانه بأنّ العدل يقتضي عدم التمييز على أساس الجندر ، وهي بادرة مثيرة للاهتمام والتحليل.وبما أنّه يتعذّر علينا الوقوف عند كلّ أشكال التفاعلية التي استبقت النقاش 'الرسمي' داخل قبة مجلس الشعب بسبب الحيّز المتاح للافتتاحية فقد اخترنا النظر في موقف التعجب والدهشة الذي عبّرت عنه فئة من النساء ولاتزال تفعل كلّما قرأت الواحدة منهنّ تعليق امرأة تدافع فيه بشراسة عن الأحكام المعلومة بالضرورة أو تابعت دعوات إحداهن على كلّ من تسوّل لها أو له نفسه مخالفة شرع الله...
ولكن ما الغريب في ذلك؟ ألم تنجح أشكال من التنشئة الاجتماعية في ترسيخ التمييز إلى الحدّ الذي جعل الواحدة تستبطن الدونية ولا ترى نفسها إلاّ من خلال ما رسخته القراءة الذكورية المركزية من أحكام تتصل بالقوامة والبيتوتة والطاعة وغيرها. وما الغريب في أن تعارض فئة من النساء المزيد من الحقوق والحال أنّهن ربّين على أن يكنّ حارسات للمجتمع ومدافعات عن نظامه وقيمه وعاداته وقوانينه فكنّ في حالات كثيرة أشدّ قسوة على الفتيات والنساء الخارجات عن السرب من الرجال؟ وما العجب في أن تفتك المرأة بالناشطة الحقوقية وتكيل لها كلّ اللكمات والحال أنّها اقتنعت بأنّ المرأة عدوّة المرأة « وأنّه لا سبيل إلى الحديث عن التضامن النسائي فصارت داعمة للصور النمطية. وما الغريب في أن تتلاسن النساء ويخضن معارك إلى جانب صراع البعض منهنّ مع المعبرين عن كره النساء؟أليس من حقهن مثل باقي المواطنين، التعبير عن آرائهن، وإن كانت المواقف أو الطريقة تخرج في كثير من الحالات، عن اللياقة وآداب الحوار؟
ثمّ لم يصرّ البعض على أنّ الخلاف بين النساء حول حقوقهن ليس إلاّ «عرك نساء» أو «عرك الحارزات» محدثين بذلك المفاضلة بين نقاش النساء «التافه» و«المضحك» والمثير.. ونقاش الرجال المهمّ والثري...؟
يظنّ أغلبهم/هن أنّ نزعة المحافظة والقبول بالتمييز والدعوة إلى العودة إلى الأحكام التي كانت متلائمة مع طبيعة المجتمعات التقليدية ليست إلا مظهرا من مظاهر «التخلف» العربي والجهل والتأخر متجاهلين ما يجري من حولهم من تحولات معولمة. فالجناح اليميني النسائي صار اليوم حقيقة لا مرية فيه تتجلى سلطته من خلال الحملات المناهضة لحق الإجهاض في الولايات المتحدة الأمريكية والتاثير في تغيير القوانين في اتجاه تقليص المكتسبات. وتبرز قوّة هذا الجناح اليميني النسائي الراديكالي أيضا في مستوى الأكاديمية فنجد نظريات تضرب في العمق ما أنجزته النسويات من معارف غيّرت فهم النساء لذواتهنّ وحقوقهن، ونجد تحليلات تبرر التبعية وتشيد بأهمية التخلي عن العمل لصالح الرجل وغيرها.
وتظهر آثار هذا الجناح اليميني النسائي في المجال السياسي فكم من امرأة احتلت موقع صنع القرار في أستراليا والمكسيك وفرنسا وغيرها من البلدان فكانت «وبالا» على النساء...
إنّ وعينا بهذه التحولات العالمية يفترض إعادة النظر في ما يصدر عن النساء التونسيات المحافظات من آراء والعمل على وضعها في إطارها وتحليل الخلفيات الثاوية وراءها. أمّا الركون وراء ممارسات سمتها الاحتقار والاستنقاص والازدراء فإنه لا يساعدنا على بناء فهم أفضل.