السياسة والأزمات الهووية

بإمكاننا أن نحلّل الأحداث التي شغلت التونسيين خلال هذا الأسبوع من زاوية سياسية ولكن ما الضير في أن نتأمّل

في ملامح المجتمع التونسي من خلال النقاشات التي دارت في مجلس نواب الشعب وخارجه؟ وما المانع في أن نرى أنفسنا في المرآة؟ فالجدل حول ترشيح «تونسي من أصل يهودي» لوزارة السياحة قد تزامن مع نقاش حول أشكال التطبيع الثقافي وتنزّل في سياق سياسي عالمي يزداد فيه القادة السياسيون يوما بعد آخر، تأييدا لسياسات إسرائيل الغاشمة. وقد ترتّب عن كلّ ذلك تراشق النواب وزعماء الأحزاب وغيرهم بالتهم وتبادل للسباب واحتجاجات وتشهير ببعض الشخصيات وتخوين للبعض الآخر وكانت المحصّلة: ارتفاع لمنسوب العنف.
وانطلاقا مما حدث تجلّت صورة المجتمع التونسي وباتت أكثر وضوحا وواقعية، ومخالفة لما يعتقده أغلب التونسيين الذين ظلّوا طيلة عقود من الزمن، يعتقدون اعتقادا جازما أنّهم مجتمع منفتح و«علماني» ومتقبّل للآخر ويفتخرون بأنه لا «مشكلة» لديهم مع الآخر المختلف دينيّا أو مذهبيا أو إثنيّا ...وها هم اليوم يعيدون النظر في علاقة اليهودية بالصهيونة، ويتساءلون عن علاقة يهود الخارج بيهود الشتات ويهود الداخل بإسرائيل وها هم اليوم يناقشون مفهوم الولاء والانتماء والمواطنة...
من الواضح أنّ التساؤل حول دلالات الصهيونية وأشكال التطبيع وموقع التونسيين من أصول مسيحية أو يهودية أو بهائية وغيرها في المجتمع وأدوارهم وكيفية مشاركتهم في بناء مسار بناء التحوّل الديمقراطي ، وغيرها من المواضيع مشروع حتى وإن تأخّر أوان طرحه، بل إنّ الحوار حول هذه المواضيع الخلافية يعتبر، في تقديرنا، علامة صحيّة وفرصة تاريخية علينا أن نحسن استغلالها ولكن كيف نؤطر هذا النقاش؟ ونديره؟ وما هي الوسائط المعتمدة؟ وما هي الفضاءات المتاحة والملائمة لطرح مثل هذه النقاشات؟ وما هو دور المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية في هذا السياق المتسم بالتشويش والضبابية والانغلاق على الذات؟ وعلينا أن نتساءل أيضا عن طرق تجاوز أشكال التوظيف السياسي والايديولوجي و التلاعب بالجماهير.
ومن علامات انغلاق المجتمع ونزوعه نحو المحافظة التعامل مع النساء الفاعلات في السياسة بطريقة مسيئة ومعبّرة عن «كره النساء». فما تلفظ به نائب تجاه زميلته لا يعدّ «حالة شاذة» بل هو في الواقع، من الممارسات التي نلاحظها داخل الأحزاب وفي الاتحاد العام للشغل، وفي الجامعات وغيرها من المؤسسات عندما يتعلّق الأمر ب «اقتحام النساء» مجالات جديدة. يكفي أن نصغي إلى مجموعة من النقابيات أو الفاعلات السياسيات وهن يروين تجاربهنّ لنفهم أشكالا أخرى من العنف المستشري في مجتمعنا. ويمكن القول إنّ هذا السلوك متوقع باعتبار أنّ السياسة مجال ذكوري يحتكره الرجال ويعتقدون أنّه من امتيازاتهم ولا صلة للنساء به.
والواقع إنّ ما عايناه طيلة سنوات كتابة الدستور من عنف تجاه الفاعلات السياسيات والحقوقيات والناشطات الجمعيات لا يزال مستمرا وتتسع دائرته والأخطر من كلّ ذلك أنّه صار ممارسا في فضاء يفترض أنّه «آمن». ولكن يبدو أنّ من «المشرّعين للقوانين» فئة لا تدرك معنى الالتزام ولا تفهم معنى المساءلة ولا المحاسبة بل إنّها لا تفقه معنى الحريات الفردية ولا تفهم أشكال العنف المسلّط على النساء.
لنا أن نفخر بالقوانين الداعمة لحقوق النساء، ولنا أن نشيد بنضال الناشطات من أجل انتزاع حقوق أخرى ولكن ّ هذه السردية لا يجب أن تحجب عنّا حقيقة مفادها أنّ الفجوة لاتزال حاضرة بين النصوص التشريعية والواقع المعيش. فالعلاقات بين النوّاب والنائبات ليست إلاّ صورة مصغّرة عن مختلف العلاقات الجندرية داخل المجتمع، وهي في ذات الوقت، معبّرة عن التحولات على مستوى المنظومة القيمية . فما كان يعدّ ‘عيبا’ ومن غير المقبول، ومن المخجل، وغير الأخلاقي...صار يُحتفى به بل ويُشجّع الناس على مزيد التمادي فيه.
وما يسترعي الانتباه في هذه الطرق من المعاملة بين الفاعلين السياسيين والمنقولة عبر وسائل الإعلام أنّنا بتنا نلمح التغييرات الطارئة على المجتمع. فقد تغيّر سلوك التونسيين وتزحزحت القيم التي تربوا عليها عن موقعها لتفسح المجال لانفعالات ومشاعر باتت تهيمن على المجموعة. ونذهب إلى أنّ هذا السلوك العدائي وهذه الممارسات صارت تشير بوضوح إلى المخاوف السائدة : الخوف من فقدان الامتيازات الذكورية، الخوف من جرأة بعض النساء على فضح المخفي، الخوف من ضياع المناصب القيادية لاسيما بعد تطبيق المناصفة قسرا وإفادة النساء منها وبروز المزاحمة النسائية..ولذلك فإنّ طريقة تعامل فئة من الرجال مع النساء باتت أكثر مرئية تتجاوز المجال السياسي لتشمل كلّ الفضاءات.
ولكن لا يقتصر الأمر على علاقة الرجال بالنساء فحسب فتعامل عدد من الفاعلين السياسيين ،أي الرجال مع الرجال قد أضحى هو الآخر موضوعا جديرا بالتأمّل.فكلّما احتدّ النقاش بين الخصوم صارت الرجولة موضع تساؤل وتعيير وبات النقاش حول اختبارات ومعايير تثبت من هو «أرجل» وبذلك لا تكون التراتبية بين الرجال والنساء فقط بل هي نظام يخضع له الرجال: هناك «أشباه الرجال» وهناك «الرجال الأفذاذ» وهناك «رجل بألف» وهناك «الرويجل» وهناك «المخنّث» و... والعنف مشروع طالما أنّه يضع «الرجال» في منازلهم. ولا يختلف الأمر في علاقة الفاعلات السياسيات ببعضهن البعض فالعنف ممارس في الظاهر والباطن،والخصومة بلغت مداها لاسيما بعد أن دخل عدد من النائبات الممارسات الذكورية.
وهكذا نتبيّن أنّ قضايا الهوية الدينية والهوية الجندرية صارتا في الصدارة تتجاوران مع قضايا هووية أخرى. ولكن ما العمل مع هذه الأزمات الهووية المستفحلة في سياق يعزف فيه الناس أكثر فأكثر عن المشاركة السياسية؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115