الى مركز الاهتمام وعمت حالة من الرعب النفوس لساعات من الزمن وانطلقت الألسن من عقالها لتقول كل شيء ولا شيء وتعلق على الكليات والجزئيات وعلى التصريحات وعلى الردود على التصريحات ..
ليس من الحكمة في شيء أن نهون من أمر ما وقع ، فلقد مررنا بجانب كارثة محققة لو كان الحزام الناسف للإرهابية من طراز ارفع وذي قدرة تدميرية اكبر ،ولكن ما حصل ،كما حصل ، يبين بدوره أن بلادنا قد انتصرت بصفة نهائية على الإرهاب ، والانتصار لا يعني بالطبع انتفاء العمليات الإرهابية ولكن يعني ، قياسا بمقاومة مرض معد خطير ، أننا تجاوزنا بصفة نهائية الحالة الوبائية وأننا أصبحنا بصدد معالجة حالات بدائية او معقدة خطيرة ولاشك ولكنها دون المستوى الوبائي بكثير اي أنها لم تعد قادرة على تهديد الدولة أو حتى إلحاق أضرار ذات بال بالبلاد والعباد ..
وهنا لابد أن نعترف بالجهود الضخمة التي قامت بها كل قواتنا الحاملة للسلاح من أمن وحرس وجيش منذ ربيع 2013 وبدايات تمشيط جبل الشعانبي بعد أن كانت البلاد مستباحة لجحافل الإرهاب والتطرف على امتداد السنتين 2011 و2012 ولابد كذلك أن ننوه بالإرادة السياسية في مقاومة الإرهاب لحكومات المهدي جمعة والحبيب الصيد ويوسف الشاهد وكذلك لرئيس الدولة الباجي قائد السبسي ، كما أن هنالك رفضا وإدانة للإرهاب من الغالبية الساحقة للتونسيين نخبا ورأي عام ومواطنين من كل الأعمار والفئات والجهات ولولا هذه الإدانة العامة لما أمكن لنا، مجتمعين أن ننتصر على الإرهاب ،ولا ينبغي أن يقلص من أهمية هذا الانخراط الجماعي في مقاومة الإرهاب تصريح من هنا أو سقطة لسان من هناك ففي المعارك الأساسية – ومعركتنا ضد الإرهاب من أهمها – لا ينبغي ترصد سقطات بعضنا أو تحميل الكلمات المنفلتة أكثر مما تتحمل، ولكن كما في كل الشؤون ، لابد أن يأتي المثل من قيادات البلاد في الحكم والمعارضة وألا نجعل من عملية إرهابية فاشلة مناسبة إضافية للتخاصم ولتبادل إلقاء التهم ، وساذج من يعتقد بأن ظرفا سياسيا أو اجتماعيا ما كان هو الدافع الأساسي لهذه العملية الإرهابية ، فالجماعات الإرهابية لا تتخير الظروف السياسية أو الاجتماعية بل تتخير أهدافها ( سياح ، قوات أمنية حاملة للسلاح ) وتسعى لنصب الكمين كلما تيسر لها ذلك بغض النظر عن «التوافق» أو «الخصام» السياسي ومن يريد ربط توقيت عملية إرهابية ما بظرف سياسي أو اجتماعي قصد إلقاء اللائمة على غيره إنما يلعب بالنار ويريد إشعال الفتنة في البلاد ..
نعود للعملية الإرهابية الفاشلة التي جدت يوم الاثنين بشارع الحبيب بورقيبة لنقول ، جزئيا ، عكس ما قاله وزير الداخلية : إنها ليست عملية معزولة قامت بها فتاة بالاستعانة بفرد أو اثنين فنحن في ابسط الأحوال أمام شبكة صغيرة العدد ربما ولكن تمكنت من تجنيد فتاة عن بعد بواسطة الانترنيت على الأرجح وأن هذا التجنيد الأولي تبعه تجنيد مباشر تم بموجبه عملية غسل دماغ سريعة دفعت بشابة تونسية إلى الإقدام على تفجير نفسها ظنا منها بأن ذلك هو «مفتاح الجنة» التي حرمت منها في الأرض ويمكن أن نقول بأن عملية التجنيد كانت ذات فاعلية بما أن الفتاة نفذت كل ما تم تكليفها به ولم تتغلب فيها قوة الحياة الكامنة في كل نفس بشرية ..
فنحن إذن أمام عملية تجنيد وغسل دماغ ذات فاعلية كبيرة ليس بالأمر الهين وإلا لكانت هنالك عمليات إرهابية انتحارية كل أسبوع في بلادنا .
ولكن مع «نجاح» عملية التجنيد هذه هنالك فشل ذريع في توفير المادة المتفجرة ذات القوة الكبيرة بل كانت في أقصى حالات البدائية وهذا يدل على انه هذه الجماعة الإرهابية بالذات عملت وهي مقطوعة الأواصر مع بعض الجماعات التي تملك هذه المتفجرات كما تدل أيضا أن تفكيك أوصال الخلايا الإرهابية التي قامت بها قواتنا الأمنية والعسكرية قد بلغ مداه وافقد كثيرا من فاعلية وجاهزية هذه الجماعات الإرهابية .
لقد استمعنا إلى تحاليل غريبة هذه في الساعات الاخيرة من صنف أن عدم إحباط القوات الأمنية لهذه العملية الفاشلة قبل وقوعها إنما هو إخفاق أمني والحال أننا نعلم انه كلما كانت العملية «بدائية» وكان عدد القائمين عليها محدودا صعب استباقها، أو من صنف لو أن الدولة احتضنت هذه الشابة وغيرها ، لقضينا على الإرهاب وكأن هنالك دولة واحدة في العالم يمكن أن تحيط بكل مواطنيها وان تتعرف على سرائرهم وان تتجنب بذلك ليس الإرهاب فقط بل كل أصناف وأنواع الجريمة .
لا جدال في أن الرقي المشترك وتوفير المستوى التربوي والمهني والثقافي اللائق من شانه ان يحصن صاحب (ت) ه من الإرهاب ولكن من الوهم توقع أن يشمل هذا كل أفراد المجتمع فردا فردا ، فأقصى ما يمكن لسياسات عمومية نشيطة تربويا وثقافيا واقتصاديا وعلميا فعله هو تقليص مجالات الانحراف والجريمة المنظمة والإرهاب لا القضاء عليها كلية فهذا تصور ملائكي لا ينتمي لعالم البشر ..
ما هو سليم في هذا التمشي الذي تحدثنا عنه هو القول بان محاربة الإرهاب لا يمكن أن تقتصر فقط على الجانب الأمني وانه ينبغي إسناد هذا الجهد الأمني الضروري بجهود أخرى وسياسات عمومية ومجتمعية متعددة ونشيطة ولعل أهمها يبدأ بإصلاح فعلي وجذري لمنظومتنا التعليمية والتكوينية لا للتحصين العقائدي ضد التطرف والإرهاب ، فهذا قد يكون أحيانا غير مجد ، ولكن لتوفير التكوين الأساسي والمكتسبات الضرورية التي تسمح لكل بناتنا وأبنائنا بان يلجوا الحياة العملية وهم مسلحون بأفضل الأدوات لمواجهة تحدياتها كما انه من دور الأحزاب والنقابات والجمعيات تاطير الشباب حيث يعيش وان نعمل جميعا ، ما أمكن لنا ذلك ، على القضاء التدريجي على كل مناخات التهميش والهشاشة الاجتماعيين ، ولكن تبقى الهشاشات الفردية والتي لا بديل في معالجتها عن العائلة أساسا والمدرسة في مستوى ثان ..
عندما نقول بان تونس قد انتصرت على الإرهاب فهذا لا يعني أننا أصبحنا محصنين ضد العمليات الإرهابية حتى الخطيرة والدامية منها ولكن يعني ان موازين القوى قد انقلبت بضفة جذرية وان فلول الإرهاب أصبحت ملاحقة وفقدت كثيرا من فاعليتها وخطورتها ، ولكن ينبغي أيضا أن نريد جميعا هذا الانتصار على الإرهاب أي أن نجعل من هذه الحرب ومن كل مراحلها وحلقاتها فرصة للتجميع وللتعبير عن المشترك فينا لا لتصيد أخطاء بعضنا البعض ولتصفية حسابات سياسية ليس ذلك محلها أو مجالها .
الحروب لا تربحها الأمم المتشتتة، الحروب لا تربح إلا متى كنا موحدين فيها دون أن يعني ذلك نفي اختلافاتنا ، ففي الديمقراطية يكون الاختلاف في الوطن لا عليه والإرهاب استهداف للوطن ولقوام عيشنا المشترك ..
نحن عادة ما ننتقد غياب الارادة السياسية ولكن المطلوب هو الإرادة الجماعية كذلك وغيابها سيكون خطرا على الجميع .