حيث يمسك كل واحد قلمه لإحصاء الأعضاء ، في عملية شبيهة بتلك الّتي نشهدها لدى المتابعين للرهان الرياضي أو سباق الخيول ، أو بدرجة أرقى للمتابعين للبورصة.
هذا اللّهو اليومي بالعد التنازلي والتصاعدي في الكتل الأولى في الترتيب، يغذي معارك خاطئة تـُـدارُ فيها عمليات لتشكيل أغلبية برلمانية ظرفية غير مريحة في محاولة لتغيير ملامح الخارطة السياسية قبل انتخابات 2019 وتمهيدا لخوضها في نفس الوقت .
هذا «اللّهو» في بهو البرلمان ،المتميّز بالتنقل بين المواقع و تغييرها مع التنكر الصارخ لإرادة الناخبين ، تصاحبه ألعاب بهلوانية في الفضاء المفتوح للكيانات السياسية الّتي أصبحت تبحث عن وسائط جديدة لاسترجاع و استبقاء القواعد الّتي لم تعد تدري على أي قدم ترقص .
لقد كنا ننتظر إثر تصريحات رئيس الجمهورية حول إنتهاء مرحلة التوافق ، حصول تداعيات على الحياة السياسية العامّة ، و توقعنا إمكانية تغيير المشهد السياسي ،و زيادة غليان مراجل السياسة، و ظهور «خلطة» جديدة (المغرب 26 سبتمبر 2018) و لكن لم نكن نتوقّع تغيّر الواجهة الأمامية لحزب نداء تونس وتركيز سليم الرياحي أمينا عامّا جديدا لهذا الحزب .
لم يفاجئ الاندماج بين حزبي نداء تونس والحزب الوطني الحر الرأي العام فقط بل فاجأ حتى أعضاء الحزبين والمتابعين للشأن السياسي التونسي ، الّذين رأوا في ما حصل اخراجا لمشهد مذهل خارج عن مألوف الهياكل الحزبية المؤسّسة على التعامل الديمقراطي داخل الأحزاب و عن ثوابت الحوار السياسي و التشاور الموسع وتجاهلا تاما لرأي القواعد .
إن ما يحصل إذن في حلبة البرلمان وفي الفضاء المفتوح للتشكلات السياسية، أصبح متصدّرا للمنابر ، و جعل ما يحصل في الأحزاب في قلب الأحداث ،في تجاهل تام لتداعيات ذلك على المواطنين ، الّذين تشغلهم مصاعب الحياة اليومية .
إن الحسابات المؤسّسة على الكم العددي في الكتل البرلمانية ، واستمالة هذا الطرف أو ذاك ،يغيّب تقييم الناخبين لهذا التجاذب، وتقديرهم للمواقف المتنكّرة لإرادتهم و اختياراتهم . كما تعطي هذه الحسابات مؤشرات خاطئة عن الوزن السياسي للتنظيمات الحزبية المتصارعة و المتنافسة ، لأنها تبقى في النهاية منحصرة في أطر فوقية ، لا تعكس إرادة من ائتمنهم على تمثيلهم و التصرف باسمهم .
لذلك يمكن الجزم بأن ما يحصل على أعتاب مجلس نواب الشعب ،يستنزف القاعدة الانتخابية و ينفّر القواعد الحزبية، ويساهم في مزيد توسيع رقعة المتخلين عن أداء الواجب الانتخابي و المتهربين من المشاركة في العمل السياسي المنظم.
إن طواحين المعارك السياسية اليومية ازدادت حدّة في مجلس نواب الشعب، و خلقت شقوقا جديدة في الكيانات السياسية وتباينا مَرضيا بين أطراف تحمل نفس المشروع ،و نقصد بهم من كانوا في العائلة الكبرى لحزب نداء تونس، وتذبذبا و تخوّفا في صفوف حزب حركة النهضة رغم التماسك الظاهر لهم، وخلقت مناخا من عدم الارتياح و الحيرة في مكوّنات المجتمع السياسي، و نوعا من القرف في أوساط النخبة المتبنية للنقاوة السياسية .
في هذه الأحوال تتهيأ عوامل عدم الاستقرار و يتوقّف التفكير الجاد في العمل على تجاوز الصعوبات الّتي تعيشها البلاد، و يصبح الإنشغال بالشأن السياسي الضيّق لكل طرف هو الشغل الشاغل له ، و المحرّك الأساسي الّذي يقف وراء كل مبادرة ، دون أي تفكير في المصلحة الوطنية الّتي يتشدّق بها الكثيرون من غير إدراك لمقتضياتها الحارقة .