وهو ما يكسبها إمكانيات واسعة في التواصل مع مختلف فئات المواطنين و معرفة الآليات القانونية و كشف النواقص والثغرات. و لكن أحوال المحاماة اليوم ليست على ما يرام ، و لم يستثنها التأزم . فهي تضم اليوم حوالي 9000 محامي، حوالي النصف منهم من الشباب (أي أقل من 40 سنة )و حوالي 1500 منهم غير مباشرين و حوالي 200 محالون على التقاعد . و تشغّل هذه المهنة ما لا يقل عن 15 ألف شخص من مستويات مختلفة ، و لها تغطية صحية خاصّة و نظام حيطة و تقاعد خاص أي مموّل من المحامين فقط،و يسجّل صندوق الهيئة الوطنية للمحامين عجزا يتجاوز مليوني دينار بسبب التخلف عن دفع الاشتراكات السنوية ، كما يسجل صندوق الحيطة و تقاعد المحامين تخلّف العديد من المحامين عن خلاص مساهماتهم السنوية ، دون أن تكون الخدمات حائزة للرضا.
و المحامي المتمرّن قلّما يتقاضى أتعابا و ذلك لمدّة قلّما تكون أقل من سنتين و إن مباشرة المحامي الشاب تتطلّب 3 سنوات ليضمن شيئا من الاستقرار في مباشرة نشاطه ، لذلك تبقى بداياته صعبة و لا يجد سندا له، مثله مثل العديد من المحامين المرسمين بالاستئناف الّذين يعيشون أوضاعا هشّة.
كما أن أغلب المحامين يتسوّغون مكاتب لمباشرة عملهم ، و لكن لا يتمتعون بحق البقاء لذلك يبقون دائما محل تهديد بالخروج و هو ما يخلق مناخا من عدم الاستقرار بسبب الارتفاع المتزايد لمعينات الكراء و لذلك يكونون كثيري التنقل من مقر إلى آخر، إلى درجة أن هياكل المحاماة تصبح غير قادرة على مراقبة مباشرتهم ،و هو ما يخلق إشكاليات أخرى يضيق المجال لتناولها.و فضلا عن ذلك فإن المحامي لا يتمتّع بمعلوم تسجيل تفاضلي عند اقتنائه لمكتب خاص على غرار بعض المهن الحرّة الأخرى .كما أن شركات المحاماة لا تتمتع بأي امتيازات ، الأمر الّذي جعل عدد الشركات محدودا جدّا ، و هو مجال نشاط كان بالإمكان أن يكون واسعا و متقدّما و قادرا على استيعاب يد عاملة لو توفّرت له الامتيازات و التشجيع.
إن ضيق مجال عمل المحامي لعدم إقرار وجوبية المحامي في كل القضايا، وهو ما يتسبّب في نقص مداخيل المحامين يشكل سببا من أسباب تفشي بعض الظواهر السلبية الّتي تسيء للمحامين ولسمعة المحاماة ، وهو ما يدعو الهياكل الممثلة للمحامين إلى البحث عن حل هذه الإشكاليات مع السلطة العامّة .
هذه الأوضاع الخاصة لا تبرّر تخلّي المحاماة عن دورها في إصلاح القضاء أو الانكفاء على نفسها، و لا تبرّر الصمت عمّا يحصل في الشأن القضائي و حتى في الشأن الخاص للقضاة ، أو في شأن المحاماة ،كما هو الحال للمعهد الأعلى للمحاماة، (الّذي يستحق مقالا خاصا بأوضاعه )، أو الاكتفاء بالبحث عن سبل المحافظة على بعض التوازنات مهما كان الثمن و لاعتبارات غير مهنية ، أو تناسي دور المحاماة في مجال تطوير التشريعات و تعزيز مكاسب الدولة التونسية
فبحكم ارتباط المحاماة بالعمل القضائي كمشاركة في إقامة العدل ، فإن هذا التلازم يفرض التعاون و اتحاد الجهود كي يسير مرفق العدالة كما يجب و كي تكون السلطة القضائية فاعلة ومهابة في نطاق تطبيق القانون و إعمال مبادئ العدل و المساواة والإنصاف .
ومن الجهود الّتي يجب بذلها مقاومة الفساد و المحسوبية والرشوة و السمسرة لإنفاذ كلمة القانون ،ولاكتساب ثقة المتقاضين ،و لكن لا بد من رعاية القضاة والمحامين و تحصينهم من نزوات الفساد و توفير الإمكانيات لضمان حسن آليات القضاء .
هذا القول ليس وليد اللّحظة بل هو موقف ثابت دافعنا عنه قبل جانفي 2011 و في فترة الترويكا وعند تحول السلطة إلى الجمهورية الثانية . و لكن لمسنا ضعف إرادة التغيير لدى القضاة والمحامين و لدى السلطة التنفيذية و يعود السبب في نظرنا إلى قلّة الإمكانيات و إلى تمكن الفساد من مختلف الآليات و حرص كل الأطراف على تجنب فتح الملفات خوفا من مجريات فتحها في تورّط هذا الطرف أو ذاك في مختلف المواقع ،و الخلفيات المالية والسياسية للعديد من الملفات.. وقد سبق أن لاحظنا على أعمدة «المغرب» أنه خلف الواجهة «المخيفة» للقضاء ،الّتي تبدو متماسكة من الخارج، واقع مرير ،يلمسه المتابع لما يحصل في الدّاخل والمطلع على أوضاع كل المحاكم في مختلف الجهات .
وغياب ردود الفعل على ما تناولناه في نهاية الأسبوع الماضي و خلال هذا الأسبوع ، يؤكّد المخاوف المريبة لأصحاب الشأن من «العلاج الذّاتي» لجسدهم المتهالك ، وعدم التفاعل مع الدعوات التّي تحث مؤسسّات الدولة والأطراف المعنية بالشأن القضائي عموما على التحرّك السريع والناجع لإنقاذ مؤسّسة القضاء ، من التردّي الّتي هي فيه . و حتى لا نظلم أحدا لا بد من الإشارة إلى صدور تصريحات تمّ بثها يوم الجمعة 21 سبتمبر 2018 من عميد المحامين ورئيس جمعية القضاة التونسيين وحصول بعض التحركات المتصلة بالحركة القضائية و نقص الإطار القضائي،و لكن يبقى ذلك في نطاق عمل «المناسبات» تُخيّرُ المنابر الإعلامية على مختلف مشاربها و تصنيفاتها ألاّ تخوض فيه و أن تتجاهله لأنه لا يثير المتلّقي، وربّما لكونه محّل مهادنة ولا يدخل ضمن اهتمامات الوجوه المألوفة التّي تستهوي الماسكين بزمام وسائل الإعلام السمعي والبصري .
إن هذا الوضع ليس جديدا فقد سبق أن أشرنا إلى أن معدّل فصل القضايا في المحاكم الكبرى لكل قاضي بلغ ما يناهز 600 ملف أسبوعيا . وأن القضاة في بعض المحاكم يشغلون المكاتب بالتناوب .و أن التحرير على المتقاضين يتمّ في بعض المحاكم في المكتبات و يضطر بعض القضاة لانتظار شغور المكاتب لإنجاز أعمالهم.وإن مقرات محاكم يقع تسويغها بمئات الملايين وأن الدولة تعجز بعد أكثر من 60 سنة من الاستقلال عن بناء محاكم على ملك الدولة العام، تستجيب لمتطلّبات العمل القضائي. وأن العديد من المحاكم تغرق عند نزول الأمطار ولا تتوفّر فيها التجهيزات الضرورية و المرافق العامّة ،فتُنقل الملفات على كراسي بالعجلات ، و لا تتوفّر فيها الكراسي بالعدد الكافي ، ويضطر القضاة إلى توفير مستلزمات العمل على حسابهم،و تتعطّل الأعمال أحيانا لعدم توفّر المتطلبات الدنيا للعمل. لقد كتبنا أن دوائر جنائية تنظر في عشرات الملفات، ودوائر جناحية تنظر في مئات الملفات الجناحية يوميا وأن الملفات مكدّسة في الأركان، وأخرى تتبعثر محتوياتها ويتلاشى بعضها أحيانا أو تضيع. وإن سجونا ومراكز إيقاف مكتظة يتجاوز بعضها طاقة إستيعابها بـ150 % وأن ظروف عمل أعوان وكتبة المحاكم و أعوان السجون محل تذمّر دائم، وحالات التسيّب و نقص المراقبة يتسبّب يوميا في العديد من التجاوزات وتفشي بعض ظواهر الفساد والرشوة وأن الهياكل الممثلة للقضاة والمحامين ، تجاري النسق العام وغير قادرة على أن تجتمع أو أن تتحاور من أجل فض الإشكاليات المتراكمة الّتي يعاني منها أصحاب الشأن من قضاة ومحامين ومساعدي قضاء وما يتكبدّه المتقاضي يوميا .
هذه اللّوحة السوداء ،نقلناها في أكثر من مناسبة و يقف عليها المتابعون و مصالح وزارة العدل على بيّنة تامّة منها ،و لكن لا بوادر بادية للإصلاح الجذري ، بل إن وزارة العدل تبدو وكأنها في حالة بطالة فنية ، و هي نفسها تشكّل حلقة من حلقات التأزم بدل أن تكون فاعلة في البحث عن الحلول. ولم يعد بعد هذا ، للحديث فائدة أو بقية....