في الديبلوماسية الاقتصادية

بقلم: الراضي المؤدب

 انعقد مؤخرا الاجتماع السنوي للسفراء التونسيين ورؤساء البعثات الديبلوماسية

المعتمدين بالخارج وخَصَّصَ يوما كاملا للديبلوماسية الاقتصادية ويعتبر هذا التمشي إيجابيا اذ تلتحق تونس بمسار الدول النامية التى تولي كل الأهمية للبعد الإقتصادي وتوظف اجهزة الدولة خدمة لتمركزها وإشعاعها الاقتصادي.
أردت في هذا السياق أن أشاطر قرّاء المغرب جملة من الخواطر والملاحظات والتوصيات إنطلاقا من قناعتي أنّ هذه المسائل ليست تقنية تنحصر معالجتها في بوتقة ضيقة لمحترفيي الديبلوماسية او الاقتصاد بل هي مسائل سياسية بالأساس ،بالمعنى النبيل للمفردة، تلتهم ثوابتها من الرؤية الشاملة للمجتمع الذي نصبوا اليه وانطلاقا الى المنوال التنموي الكفيل بإيصالنا إلى شاطئ التنمية المدمجة والمتضامنة.

• بعض الخواطر
لقد كانت لي الفرصة منذ اكثر من 30 سنة مضت وبالتحديد في عام 1986 أن تمّت دعوتي من قبل وزارة الخارجية الامريكية لزيارة الولايات المتحدة في نطاق برنامج يدعى «الزّوّار الدوليون» وهو برنامج تمتع به العديد من رجال ونساء السياسة والاقتصاد والمال والأعمال والإعلام والنقابة والتعليم من مختلف بلدان العالم و من بينها تونس. ويمكّن هذا البرنامج كل من انتفع به من القيام برحلة دراسية عبر العديد من المؤسسات العمومية والخاصة حول موضوع معين يقع تحديده ارتباطا باهتمامات الزائر.ولما زرت وزارة التجارة الامريكية والتقيت بالمسؤول عن مكتب تونس اندهشت لما كان له من معلومات مُفَصَّلة عن احتياجاتنا فى أغلب القطاعات وهي معلومات لم تكن متوفرة لنا في تونس في ذلك الوقت بالرغم من انني كنت مسؤولا عن التعريف بالمشاريع في احد كبار بنوك التنمية، على علم تام بكل ما توفر من دراسات قطاعية واستراتيجية وأمام استغرابي من توفر مثل هذه المعلومات الدقيقة حول احتياجات السوق التونسية أجابني المسؤول الامريكي بكل بداهة أنّ مهمته الاولى هي مساندة المؤسسات الاقتصادية الامريكية في توسعها التجاري عالميا ومسؤوليته عن مكتب تونس تولي عليه توفير كل المعلومات التي تحتاجها هذه المؤسسات عند توجهها للسوق التونسية. أردت ذكر هذه التجربة لان تأثيرها كان هاما على فهمي لدور الادارة فى خدمة المواطن والمؤسسة الخاصة والعامة.

التجربة الثانية اللتى أودّ أن أذكرها ترتبط بتأسيسي في ماي 1987 لشركة «كومات للهندسة» وكانت الفكرة آنذك الولوج الى الاسواق الافريقية انطلاقا من تجربة التنمية فى تونس واعتمادا على الكفاءات والقدرات التونسية. تقع تونس على تقاطع عدد من المجموعات والأقاليم : العالم العربي، العالم الاسلامي، افريقيا وكلّ هذه الانتماءات تعطي للمؤسسات التونسية إمكانية الانتفاع من تمويلات هيئات التنمية الناشطة في هذه المناطق. ونظرًا الى أن تكلفة الخدمات المنتجة في تونس تقل بكثير عن مثيلاتها الواردة من البلدان الغربية فانه كل ما توفرت إمكانية انتاج هذه الخدمات بمستوى جودة مماثل أو قريب من مستوى خدمات المؤسسات الغربية إلاّ وأفضى ذلك الى قدرة تنافسية عالية للخدمات التونسية وهذا ما جعل شركة «كومات» اليوم وبعد 32 سنة من النشاط على السوق الافريقية توجه ما يفوق 80 % من خدماتها بصفة دائمة نحو ما لا يقل عن 30 دولة أساسا من افريقيا جنوب الصحراء.

• بعض الملاحظات
تتجه الأنظار اليوم كلها نحو القارة الافريقية داعية إلى التركيز على هذه الوجهة الاقتصادية الصاعدة حيث اتسمت على مدى العشرية الاخيرة بمعدلات نِسَب نموّ أرفع بكثير من نسب بلدان العالم الاخرى.
وتمثل اليوم افريقيا 17 % من مجموع سكان العالم (أي ما يعادل 1,3 مليار نسمة) وهذه النسبة مؤهلة الى المرور إلى أكثر من 40 % قبل نهاية هذا القرن (حيث تفوق في ذلك الأفق 4,3 مليار نسمة) كما ستمرّ الطبقة الوسطى في افريقيا من أقلّ من 30 % اليوم من مجموع سكّانها (400 مليون نسمة) الى ما سيفوق 50 % مع نهاية القرن. (2,2 مليار نسمة) وبذلك تمثل القارة مع نهاية القرن أوَّل مجموعة سكنية على مستوى العالم ذات عمق اقتصادي لا يستهان به.

لكن ليس هذا اليوم واقع القارة الافريقية وواقع كفاءتها الاقتصادية، إذ لا يزال العمق الاقتصادي لأفريقيا ضعيفا فعلى سبيل المثال لا يفوق الناتج الداخلي الخام لمجموع ال54 دولة الافريقية بما في ذلك عمالقتها كنيجيريا وإفريقيا الجنوبية و كينيا ومصر والجزائر لا يتعدى 85 % من الناتج الداخلي الخام لفرنسا وحدها. هذا وان حاجيات السوق الافريقية من السلع لا تتماشى مع منظومة إنتاجنا الصناعي لا كمّا ولا كيفا. وهنا يجب الفصل بين السلع والخدمات إذ أنّ القدرة التنافسية التونسية في افريقيا تكمن أساسا في ميدان الخدمات كالتعليم والصحة والدراسات الاقتصادية والهندسية وتصميم وإدارة مشاريع البنية الاساسية كالماء والكهرباء والصرف الصحي.
كلّنا على علم أنّ تونس توجه 80 % من صادراتها نحو القارة الأوروبية وتستحوذ ثلاثة بلدان فقط (فرنسا وألمانيا وإيطاليا) على 80 % من هذا المجموع. ومثّلت أوربا على مدى عقود متوالية سوقنا التقليدية والأساسية وهي لا تزال كذلك وستبقى ولمدّة طويلة السّوق الرئيسية لسلعنا للعديد من الأسباب الموضوعية تاريخية كانت أو ثقافية أو لوجستية وتمثل السوق

الأوربية اليوم أكبر مجموعة اقتصادية على مستوى العالم وأكثرها عمقا إذ هي غنية بـ 500 مليون نسمة معدل ناتجها الداخلي الخام يفوق 35000 دولار عن كل نسمة.
ونحن في تونس ورغم ارتباطنا العميق بهذه السوق والإمكانية المتاحة لكل منتوجنا الصناعي للدخول إليها دون حدود ولا معاليم جمركية فإننا لا نعرف عن هذه السوق و حاجياتها و مسالك توزيعها و مواصفات احتياجاتها و صانعي القرار الاقتصادي في مختلف بلدانها إلّا ما ندر. تونس تصدّر لأسباب تاريخية نحو فرنسا وحتّى ما تصدّره نحو ألمانيا، القوّة الأوروبية الفاعلة فهو راجع بكثير إلى المستثمرين الألمان الذين ينتجون في تونس شيئا مما يحتاجونه، أساسا في قطاعي الكهرباء والميكانيك ويعيدون تصديره لإدماجه في إنتاجهم في ألمانيا. ولا يتعدى ما نصدّره الى فرنسا أو ألمــانيا أو إيطاليا 0,5 % ممّا تورده هذه الدول من سلع ! وهذا وان دلّ على شيء فهو يدلّ على الامكانيّات الرهيبة المتاحة لنا في السوق الأوروبية دون أن نستغلها على أفضل وجه.

• بعض التوصيات
إنه من المهم ان تواصل تونس انفتاحها الاقتصادي والتجاري على العالم وأن لا تبقى رهينة علاقات تاريخية موروثة عن تبعية سياسية ومكرِّسة لها. ويجب في نفس الوقت ان يكون تمركزنا الاقتصادي برغماتيا ولا ايديولوجيا، أساسه التركيز على الرفع من القدرة التنافسية للاقتصاد التونسي وربط علاقات شراكة كفيلة بإعطاء الفرصة لكل الفاعلين الاقتصاديين للولوج الى عالم التكنولوجيا والبحث والتحديث. وانطلاقا من هذه الأسس يتحتم علينا:

- مواصلة التركيز على السوق الأوروبية قصد معرفة أدقّ لحاجاتها بلدا بلدا والاستئناس بمسالك التوزيع فيها ومراكز القرار ويتم ذلك بالقيام بدراسات ميدانية وقطاعية تتلاقح فيها كفاءات القطاع الخاص بامكانيات القطاع العام حتى تفضي الى نتائج عملية توضع على ذِمَّة كل المتدخلين الاقتصاديين خدمة لتمركز أكثر امتيازا للمنتوجات التونسية دوليا

- حثّّ الفاعلين الاقتصاديين على التعرّف والتأقلم مع حاجيات السوق الافريقية كمّا وكيفا. لن يمكن لنا ان نصدّر نحو افريقيا الفائض من إنتاجنا بل يجب علينا، إذا كان شأننا الدخول الى هذه الاسواق والمحافظة عليها ان ننتج حاجياتها وان نستجيب الى نوعية طلبها وتكييفها ومواصفاتها- وضع ستراتيجية للإحاطة بالقطاع الخاص ومواكبة جهوده للدخول إلى السوق الافريقية ويمرّ ذلك عبر:
إبرام اتفاقيات لعدم ازدواجية الضرائب بين تونس والبدان الافريقية وَيَا حبذا لو أعلنت السلطات - الرسمية عن خطة واضحة تتعهّد عبرها بإبرام 10 اتفاقيات سنويا على مدى الأربع سنوات القادمة ويعطي مثل هذا الإعلان صورة واضحة عن مدى الأهمية اللتى توليها الحكومة التونسية لهذه السوق - الرفع من أداء الحلقة اللوجستية في ميدان تصدير السلع بفتح خطوط جوية وبحرية تربط تونس بأهم الموانئ الجهوية والعواصم الاقتصادية وتساهم في تعزيز الحضور التونسي بالمنطقة

- إزالة ما أمكن من التأشيرات بين تونس والبلدان الافريقية الواعدة التي نصبو الى تعزيز حضورنا بها

- وضع تراتيب واضحة لاستقبال الطلبة الافارقة دون تمييز بينهم وبين زملائهم التونسيين. هذا وتجدر الملاحظة هنا ان تونس تستقبل اليوم 1500 طالب أفريقي بينما كان هذا الرقم في مستوى 5000 طالب سنة 2010 ويرتفع في المغرب الى 12000 والى 3000 في الجزائر
لقد صادقت تونس مؤخرا على اتفاقية انتمائها الى السوق المشتركة لشرق وجنوب افريقيا (كوميسا) وهي خطوة هامة على درب الاندماج الاقتصادي صلب مجموعة اقتصادية واعدة يجب علينا الاشادة بها ولكن في نفس الوقت يتحتم علينا تثمين هذه الخطوة بالتعريف بها لدى الفاعلين الاقتصاديين وشرح الامكانات الاقتصادية للمنطقة والمزايا الجبائية والتنافسية المتاحة لهم عبر تفعيل هذه الاتفاقية. وهذا ما يتم القيام به الى الان.

لا يمكن للديبلوماسية الاقتصادية أن تقتصر على توقيع اتفاقيات بل هي مفتاح سيادي يُوظَّف في خدمة الفاعلين الاقتصاديين بغضّ النظر على انتمائهم للقطاع الخاص او القطاع العام.
تونس تحتاج الى تعبئة طاقات كل ابنائها وبناتها لخوض معركة التنمية الشاملة والمدمجة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115