مرة قال معلقا على انقلاب لويس بونابارت ومعقبا على الفيلسوف الألماني الكبير هيغل ما مفاده بأن التاريخ وإن أعاد نفسه مرتين فستكون الأولى كمأساة والثانية كمهزلة ..
المأساة كانت مع الحبيب الصيد والمهزلة اليوم تحاك خيوطها مع يوسف الشاهد.
ولكن بالطبع حتى عندما يعيد التاريخ نفسه فالجزئيات والمناخات والسياقات هي دوما مختلفة ولكن المهم هو دوما في المحصلات ويبدو اليوم بعد اجتماع لجنة الخبراء لوثيقة قرطاج 2 أن مسالة رحيل يوسف الشاهد أضحت نقطة خلافية كبيرة فيما يعرف باجتماع الخبراء ..
الغريب أن حزب الشاهد نفسه أي نداء تونس والممثل في هذا الاجتماع بسمير العبيدي (الدماغ المفكر في الخفاء لولد سيدنا) ومحسن حسن هو الذي طالب برحيل رئيس الحكومة.. ورغم مساندة اتحاد الشغل لهذا المقترح متبوعا في ذلك باتحاد المرأة وأيضا بالوطني الحر إلا أن الأغلبية العددية لممثلي الأحزاب والمنظمات (اتحاد الأعراف واتحاد الفلاحين والنهضة والمبادرة والمسار) قد رفضت التنصيص على هذه النقطة في الوثيقة لا تمسكا ضرورة بيوسف الشاهد ولكن لعدم إرغام رئيس الجمهورية على موقف معد سلفا وترك هامش هام من المبادرة السياسية لصاحب قرطاج حتى يحسم هو فيما يعتبره المآل السياسي الطبيعي لاتفاق قرطاج 2 وهل أن رحيل يوسف الشاهد مسألة ضرورية أم مضرة بالبلاد..
ولكن رغم هذه النقطة الخلافية الجوهرية فان الأطراف التسعة متفقة على أن الحكومة القادمة وأيّا كان ربان سفينتها ينبغي أن تعلن أنها غير معنية بالاستحقاقات الانتخابية القادمة ..
ولكن لابد من الإقرار بان الصورة الإجمالية مازال يكتنفها الكثير من الغموض إذ لا ندري كيف سيكون موقف هذه الأطراف الخمسة الرافضة لإدماج مسألة تغيير «الربّان» في وثيقة الخبراء عندما ستطرح المسالة في اجتماع «الرؤساء» كما لا نعلم هل أن الالتقاء الظرفي بين النداء والاتحاد قائم على تصور مشترك للحكومة القادمة وخاصة في توزيع الحقائب داخلها أم أنه مجرد اتفاق تكتيكي لإسقاط الشاهد لا غير..
ولكن الواضح اليوم على كل حال هو الهجوم العنيف لقيادة نداء تونس الحالية على يوسف الشاهد هجوم سيجعل رئيس الدولة في حرج إضافي لأنه ينبغي عليه أن يحكّم في الخلاف الواضح والعلني اليوم بين رئيس حكومة هو الذي اختاره واقترحه على الممضين على وثيقة قرطاج في أوت 2016 وبين القيادة الحالية للحزب الذي أسسه والذي يترأسه اليوم نجله الطامح بكل قوة «لوراثة ديمقراطية»..
كما نقدر بأن الموقف النهائي لاتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وحركة النهضة سيكون محددا لبقاء حكومة الشاهد من عدمه ..
يبدو أن رئيس منظمة الأعراف الذي عبر بوضوح في السابق عن ضرورة تغيير «الربّان» قد أصبح معزولا إلى حد ما داخل المنظمة أو لنقل بأن جلّ الأعراف النافذين داخل هياكل المنظمة وخارجها غير متحمسين لهذه «الغزوة» التي شنها سمير ماجول ضد يوسف الشاهد وما لا نعلمه اليوم هو الموقف النهائي لاتحاد الأعراف يوم الجمعة القادم فهل سيطالب بتغيير السياسات فقط أم يطالب معها بتغيير «الربان» و«السفينة» أيضا؟..
ولاشك كذلك بأن موقف حركة النهضة سيكون مؤثرا هو بدوره .. والأكيد أن كل «الأدمغة المفكرة» في مون بليزير بصدد الإعداد للموقف الذي يخدم مصلحة الحركة الإسلامية بالأساس اليوم وغدا (2019)وسوف يراعى فيه ولاشك التمسك بالتوافق مع رئيس الدولة ومقادير من الصراع ستكبر مع مرور الأسابيع بالحزب الذي أسسه رئيس الدولة ذاته ..
ولكن السؤال السياسي الأهم هو كيف سيتصرف يوسف الشاهد وهل سينتظر الحسم في مستقبله الحكومي أم سيستبق الأحداث ؟
يلعب يوسف الشاهد اليوم ورقة أساسية في مستقبله السياسي ..اختار منذ أشهر عديدة «التطبيع» مع حزبه - والحذر بل والحذر الشديد – في كل ظهور سياسي مستقل يوحي بأنه هو فعلا رئيس السلطة التنفيذية لا مجرد مطبق لـ «توجيهات رئيس الجمهورية»..
ولكن الواضح بان هذه السياسة قد فشلت على الأقل مع حزبه وان «ولد سيدنا» المحاط بــ«المنتدبين الجدد» يريد رأسه اليوم اليوم وليس غدا وان فرض عدم ترشح صاحب القصبة لانتخابات 2019 لا يكفيه بل يريد استغلال هذه الفرصة لإزاحة غريمه نهائيا من السباق ..
فالمهم في مطالبة اتباع قائد السبسي الابن برحيل الشاهد ليس فقط القضاء على مستقبل صاحب القصبة الحكومي بل بالاساس إلغاءه من حزب نداء تونس ومن احتمال منافسته لصاحب الباتيندة الجديد على المواعيد الانتخابية القادمة حزبيا ووطنيا ..
نحن أمام مهزلة تراجيدية أو تراجيديا كوميدية أبطالها الأب وابنيه الجيني والروحي .. والإحراج فيها أن الأب يريد الحفاظ على ابنيه إلى نهاية الطريق بينما العلاقة بين الابن الجيني والابن الروحي في هي أحسن الحالات شبيهة بالعلاقة بين قابيل وهابيل ..
ولكن الفرق بين قصة الإنسان الأولى ودراما تونس المعاصرة أن الأمر تعلق بالقربان في الأولى بينما يتعلق بالأوطان في الثانية ..
الأساسي في كل تراجيديا ليس هو «قتل» الأخ بل «قتل» الأب إذ لا وراثة دون المرور بهذه الوضعية أي لا مستقبل سياسي لأحد إن هو وضع نفسه دوما في المرتبة الثانية ..
اجتماع قرطاج لن يسفر فقط عن وثيقة ثانية حبلى بالإجراءات بل بتراجيديا يصحبها دخان كثيف لن يخرج منه سالما إلاّ شخص واحد .. والسؤال من تراه سيكون: الأب أم الابن من الصلب أم الابن الروحي ؟ أم ترانا سنكون أمام تراجيديا دامية لا يفلت فيها أحد من الدخان الكثيف؟!