الشعب تنتظر أن تتحقّق فيها تحولات نوعية على درب الانتقال الديمقراطي و الإقلاع الاقتصادي والسلم و التقدّم الاجتماعيين.
فمكوّنات المجتمع السياسي والمدني الّتي كان من المفترض أن تكون في خضم حملات التعريف بالبرامج والتصورات المتعلقة بالحياة المحلية والجهوية ، و إبراز أفكارها و برامجها و مقترحاتها، في آخر عام للفترة النيابية والرئاسية ، تجدها منشغلة بالمبارزات الهامشية و معارك المواقع ، وتسجيل «النقاط» ، دون الانصراف إلى البحث عن الحلول الناجعة لإخراج البلاد من المآزق الّتي هي فيها .
فعلى مستوى استكمال تركيز أهم مؤسسّة دستورية ، متمثلة في المحكمة الدستورية الّتي كانت مطمح المتطلعين إلى تركيز احدى دعائم دولة القانون و المؤسسات ، بقيت الأخيرة محل تجاذبات «متخلّفة» تبحث عن توافقات في مجال يقتضي أن تكون الكفاءة والحياد و الاستقلالية الأسس الّتي تنبني عليها .
وعلى مستوى تقييم و إصلاح النظام السياسي و النظام الانتخابي ، تحوّل ما تم تشريعه إلى حلبة مجادلات حول اختيارات أسست لها كل الأطراف الفاعلة في الحياة السياسية والعامّة ، و أصبحت الأفكار و التصورات المطروحة إعلاميا ،مادّة أساسية في الشأن السياسي اليومي ، دون أن تكون مطروحة أو مُقترحة للنظر داخل الهياكل المعنية بصفة رسمية.
أما على مستوى الأداء الحكومي ، فقد بدا الخيط الّذي يجمع حبّات (أطراف )عِــــقد الوحدة الوطنية ، متهرّئا ، ينكبُّ طرفا الأغلبية الحاكمة (النداء والنهضة) على رتقه ، فتحوّلت وثيقة قرطاج إلى ورقة عمل بيد لجنة مطالبة بتهدئة الخواطر والأوضاع في انتظار حل قد يأتي أو لا يأتي ، بغاية وضع جسر يوصل إلى استحقاقات 2019 بأخف الأضرار.
و قد أدّت طريقة المعالجة هذه ، إلى وضع حكومة الشاهد موضع الحكومة «المنبوذة» أو المغضوب عليها ، ممّا سيزيد في الحد من اعتبارها و نفوذها ، الأمر الّذي سيجعل قائدها خلال المرحلة المقبلة ، يتحرّك بتخوّف و توجّس، و هو ما سيحدّ من نطاق تحرّكه و من نطاق تحرّك أعضاء حكومته و خاصّة الّذين ينسب لهم ضعف الأداء و عدم النجاعة .
و الغريب أن مشهد الشاهد يتخبّط لإنقاذ حكومته من «الغرق» ، تحوّل إلى مجال استمتاع لدى البعض وتشفّي لدى البعض الآخر ،و امتدت أياد أخرى لدفعه إلى الأعماق داعية في نفس الوقت إلى إنقاذ الغريق.
كل ذلك و الكل يتجاهل أن الغريق الحقيقي هو البلاد الّتي ما تزال تتخبّط لتجاوز المصاعب الإقتصادية ، و الّتي ما إن تتمّكن من إطفاء فتيل حتّى يشتعل آخر ، ممّا جعل كل الإهتمام منصبّا على إدارة الأزمة تلو الأزمة ،و على إهدار الوقت في حل أزمات حقيقية ومفتعلة ، و تبقى المعاناة من الآثار ،عالقة و مفسدة للسلم الاجتماعية في مفهومها الشامل .
إن المركزية النقابية غير راضية عن الأداء الحكومي و تقف عموما ضد خوصصة المؤسسّات العمومية و غير راضية عن تدهور المقدرة الشرائية و طرق معالجة الأزمة الاقتصادية ومقاومة الفساد. وإتحاد الأعراف من جهته ،غير راض عن أداء حكومة الشاهد ، لأنها لا تبذل أي مجهود في دعم القطاع الخاص لتخليصه من معوقات الاستثمار ومن العمل في مناخ ملائم ، و تفتقر إلى نظرة سياسية شاملة قادرة على معالجة التردّي بإجراءات فعّالة في مختلف المجالات كفيلة بتحريك عجلة النمو.
كما أن الأحزاب السياسية المعارضة أو الّتي هي في منزلة بين المنزلتين ، غير راضية عن منحى وخيار التوافق بين الحزبين الأغلبيين و تعتبر كل محاولات «تشريكها» في الحكم ،مناورات تهدف إلى توريطها في تحمّل تبعات الخيارات المتبعة أو تحييدها. و ما زاد الطين بلّة أن بعض القطاعات وبعض الفئات الإجتماعية في تحرّك مستمر ، دون أن يحصل تغيّر في قدرات الدولة على إيجاد الحلول العالقة ، سواء تعلق الأمر بالتشغيل أو بالمطلبية المتزايدة ، و هو ما يجعل الحكومة «تقفز» من شأن إلى آخر ، وتلجأ إلى الإعلان عن حلول اضطرارية تعرف مسبقا أنها غير قادرة على تحقيقها ، فتختار التأجيل على أمل نزول منّة من السماء ، و الجدير بالملاحظة أن هذا التمشي ليس خاصّا بالشاهد بل كان موقف أغلب الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2011.
مع كل هذا تظهر أحيانا صعوبات في التعايش بين بعض القطاعات و المؤسسات و نشأ عن ذلك توتّر و ردود أفعال و كان ذلك في القضاء والأمن و الأطباء و المحاماة و الأساتذة الجامعيين وهيئة الحقيقة والكرامة ، كما أدت بعض التحركات والإحتجاجات إلى إتخاذ مواقف معطلة للمرفق العام أو لبعض المنشآت ، و هو ما يجبر الحكومة ومؤسسات الدولة على التعاطي مع هذا الواقع، الّتي لا تملك أحيانا مفاتيح الحل فيه.
هذا ما يحصل ،و لا نحبّذ القول بأن هذا الأمر طبيعي في ديمقراطية ناشئة ، كما لا نحبّذ تحميل المسؤولية لهياكل الدولة فقط ، كما لا يمكن القبول بدولة متخلّية عن دورها و تتعامل مع الأحداث وكأنها غير معنية ، بل نستغرب من مواقف بعض المسؤولين في الائتلاف الحاكم يتباكون مع الباكين و نسمعهم يستنكرون ويستغربون و ينتقدون أداءهم ، وكأنهم خارج نطاق السلطة الّتي يمسكون و يتمسكون بها .
لذلك لا مفر من القول أن الأوضاع غير عادية ويجب ألاّ تتواصل على نفس المنوال. و لا مفرّ أيضا من القول بان أسباب ذلك تكمن في غياب الإرادة الفاعلة و الجادة ، في مجابهة التجليات السلبية في ممارسة السلطة ،و الركون إلى الحلول الوسطية والظرفية وإلى الترضيات و«التوافق المغشوش» وإعمال قواعد تقاسم النفوذ ، و عدم تطبيق القوانين و عدم الحرص على إقامة العدل ،و ضعف الحس الوطني و طغيان المصلحية الضيقة . وكل هذه الأسباب تشكّل عوامل تبدّد الثقة بين الحاكم والمحكوم و تفاقم ُ الغليان و تهدّد بعدم الاستقرار وتثير المخاوف من الانفجار.