ها نحن الآن في قائمة سوداء جديدة للاتحاد الأوروبي تضم الدول المعرضة لمخاطر مرتفعة في غسل الأموال وتمويل الإرهاب ..
وكما الحال في القائمة الأولى فإن تصنيفنا في هذه القائمة الثانية كان بعد مسار كامل من تبادل الوثائق والمقترحات والرسائل أثبتنا فيه عدم قدرتنا على إقناع أهم شريك لنا اقتصاديا وتجاريا وسياسيا بالحدّ الأدنى من جدّية الدولة التونسية في الإيفاء العملي والفعلي بالتعهدات التي تلتزم بها على الورق..
لقد قيل الكثير عن العطالة التي تنجم عن التشاركية الواسعة وعن إضاعة الوقت التي تفترضها ولكن في هاتين الحالتين اشتغلت مؤسسات الدولة لوحدها دون تشريك أي طرف بل واشتغلت دون التنسيق الضروري بينها والنتيجة كانت الإخفاق المطلق بل رأينا أن تدخل فاعلين آخرين غير عموميين في أزمة القائمة السوداء للملاذات الضريبية قد كان له اثر ايجابي وساهم إلى حدّ ما في إعادة تصنيفنا ضمن القائمة الرمادية في انتظار الإيفاء الجدي بالتعهدات المكتوبة للدولة التونسية ..
ينبغي أن نعلم بأننا نجني اليوم خيبة مسار استمر لأكثر من ثلاث سنوات وان جلّ الانتقادات والملاحظات قد دونت في تقارير أساسية من بينها ذلك التقرير الذي أصدرته مجموعة العمل المالي (GAFI) في ماي 2016 والجدير بكل المعنيين بالشأن الوطني أن يقرؤوا بتمعن هذا التقرير فهم سيجدون فيه جزءا ممّا يحدسه التونسيون ويردده عدة خبراء ومتابعين للشأن العام منذ سنوات : إن التجارة الموازية والتهريب وعدم شفافية إجراءات الرقابة وتتبع مصدر الأموال المتدفقة من أشخاص أو جمعيات كل هذا يسمح بداية بغسل الأموال، أي بإدخال أموال مشبوهة المصدر ضمن الدورة الاقتصادية القانونية وكيف أن هذا الغسل يسمح بدوره بتمويل الإرهاب أي يسمح لأشخاص وهيئات تحوم حولها شبهات من بالاستفادة هذه الأموال عبر تحويلات يقر البنك المركزي نفسه بأنها محل شبهات ..
واللوم الأكبر في هذا التقرير ينصب على الجانب الردعي والعقابي أي على مسار العدالة في مقاومة غسل الأموال وتمويل الإرهاب إذ لا نجد إجابة قضائية حازمة لكل هذا الكم من الملفات التي تحوم حولها شبهات ..
ولكن لكي نفهم كل ما حصل وحتى تتضح مسؤوليات كل طرف لابد لنا من العودة قليلا إلى الوراء ..
مجموعة العمل المالي (GAFI) هي هيئة ما بين حكومية مهمتها الأساسية مراقبة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والفلسفة التي تقودها تقوم على مبدإ بسيط : كل عملية غسل أموال هي بالقوة عملية لتمويل الإرهاب حتى وإن لم يتم إثبات ذلك بالدليل القاطع ..
تقرير ماي 2016 الذي تحدثنا عنه سابقا كان سلبيا للغاية ولكن ينبغي أن نعلم انه يعكس كذلك فترة كاملة تبدأ من 2011..وينبغي أن نعلم أيضا أن عمل هذه المجموعة يأتي في مناخ يشعر فيه الرأي العام الأوروبي بمخاوف عديدة تجاه العمليات الإرهابية التي مست عددا من دوله وهنالك ضغوط كبيرة على الحكومات والهيئات ما بين الحكومية لتقوم بمبادرات ذات فاعلية للحدّ من غسل الأموال ولمقاومة تمويل الإرهاب..
أي بعبارة أخرى الرأي العام الأوروبي بحاجة إلى إجراءات ردعية ضد الدول والجهات التي لها علاقة ما بتمويل الإرهاب أو بغسل الأموال ولهذا كانت المعايير صارمة ولا تكاد تغفل عن أي شاردة أو واردة ..
اما الجهة التونسية التي تتحاور مع مجموعة العمل المالي فهي البنك المركزي وبالتخصيص اللجنة التونسية للتحاليل المالية المسؤولة عن دراسة مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب واقتراح الإجراءات القانونية والإدارية الكفيلة بتحسين الأداء في هذا المجال ..
والواضح أن هذه اللجنة ومن ورائها البنك المركزي كانا في نوع من الغيبوبة ومن انكار الواقع ورفض رؤية حقيقة المخاطر التي تهدد تونس اذ ابتهجت اللجنة التونسية للتحاليل المالية في بيان لها منذ أسابيع قليلة بإشادة مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط بتقدم تونس في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب .. نعم إشادة بتقدم تونس في اجتماع مجموعة العمل المالي في البحرين في ديسمبر 2017!!!. هكذا كانت «تحلّل» لجنة التحاليل المالية الرسائل الواضحة لمجموعة العمل المالي !!!
وما دمنا إزاء هيئة (البنك المركزي) تتمتع بالاستقلالية التامة لرسم السياسات النقدية للدولة فلا أقل أيضا من تحملها لمسؤوليتها التامة إزاء هذا الإخفاق..
ولقد أرادت المفوضية الأوروبية أن تستجيب للضغوط التي يمارسها الرأي العام الأوروبي في هذا الاتجاه فقررت إصدار قائمة سوداء للبلدان المعرضة لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب فاعتمدت على تقارير مجموعة العمل المالي والتي تدرج ثلاث دول جديدة في هذه القائمة : تونس وسيري لنكا وترينتي توباقو. والبنك المركزي ولجنة التحاليل المالية متشبثة بـ«الإشادة» المتوهمة لمجموعة العمل المالي، وقد سعت الحكومة التونسية إلى تلافي الأمر في الوقت البديل كما يقال حتى توقف قرار المفوضية الأوروبية وعهدت بداية إلى لجنة برلمانية تابعة للبرلمان الأوروبي عساها تعطل قرار المفوضية وقد ساندتنا أحزاب يسارية ودول هامة خاصة في جنوب القارة ولكن التصويت النهائي داخل اللجنة لم يكن لصالحنا إذ صوت 32 نائبا مع قرار المفوضية ضد 28 نائبا ..
وقد سعت جهات تونسية وفي ظرف قصير وقياسي لإيجاد سند هام داخل البرلمان وأقنعت المجموعة اليسارية بتقديم اعتراض على قرار المفوضية وتجاوز التأثير التونسي هذه الدائرة الضيقة وتمكنا من إقناع جل الأحزاب الاشتراكية وبعض الأحزاب اليمينية أيضا وتغيرت موازين القوى في الساعات الأخيرة لفائدة تونس ولكن تأثير المفوضة السامية لتمرير قرار المفوضية مع وعد أصدقاء تونس من النواب الأوروبيين بانه سيتم سحب بلادنا من هذه القائمة في اقرب فرصة غيّر شيئا ما من المعطيات.. وهكذا ورغم تصويت أغلبية الحاضرين مع إسقاط قرار المفوضية بـ357 صوتا ضد 283 واحتفاظ 26 ولكن نقص لصف تونس 19 نائبا اذ الأغلبية المطلقة المطلوبة لإسقاط هذا القرار هي 376 نائبا ..
هذه هي القصة الكاملة في خطوطها العريضة وهي قصة تقصير لا تقتصر فقط على البنك المركزي ولجنة التحاليل المالية، بل هي قصة إخفاق عامة تروي أزمة الحوكمة في بلادنا وتشتت القرار وعدم اتساق وتنسيق كل هياكل الدولة ولكن الهبّة الأخيرة وعملية التحيين التي حصلت وجلبت لنا جلّ نواب وأحزاب دول جنوب أوروبا لم تكن كافية ووجدنا أنفسنا محشورين في ظرف شهرين في قائمة سوداء جديدة نعتقد أنّنا سنخرج منها كذلك كما خرجنا من الأولى ولكن لم هذا التقصير؟ ولم إضاعة كل هذا الوقت؟!..
مسؤولية البنك المركزي اي مسؤولية المحافظ في نهاية التحليل قائمة لا لبس فيها اذ العبرة في السياسة بالنتائج والنتيجة هنا كارثية ،ولكن نخطئ لو أردنا تعليق كل اخفاقاتنا على شخص السيد الشاذلي العياري وان نحمله ما لا طاقة له به كتقلص مخزوننا من العملة الصعبة وتراجع قيمة الدينار..
إن التشخيص السيئ ينتج دوما حلولا سيئة ..كنا نودّ لو وجدنا صيغة أفضل للإجابة عن هذا التحدي الجديد للبلاد باستقالة محافظ البنك المركزي بدل السعي إلى إقالته في إطار مسار معقد قد يعطي صورة سلبية على استقرار مؤسساتنا كما أن المطلوب غدا ليس هو شخص المحافظ الجديد بقدر الاتفاق على السياسة النقدية والرقابية التي نريدها للبلاد وأن يكون انتخاب المحافظ الجديد بناء على إستراتيجية عمل واضحة وعلى عقد أهداف يلزم الجميع ..
كنّا نود ..