بالعشرات شهريا وبالمئات سنويا بما ينفي تعلة «التجاوزات الفردية» لأننا أمام وتيرة لا يمكن الصمت عليها ولا يمكن أن تقبل بأي حال من الأحوال حتى في مرحلة الانتقال الديمقراطي..
نحن لا نعتقد، مبدئيا، بأنه بالإمكان التراجع عن الحريات بصفة عامّة وعن حرية الصحافة والنشر بصفة خاصة ولكن هذه الحرية ،كغيرها من الحريات ،ليست بمأمن من الضغوطات والتحجيم وليست مكسبا أزليا لا يمكن أن يطاله الافتئات والتدمير خاصة ونحن نتحرك في ثقافة عامة تكبر الحرية في المطلق وتنزعج منها كثيرا في الممارسة.. ومادمنا نرزح تحت عقل جمعي يطالب بتقليص فضاء الحرية في مجالات معيّنة (الدين.. الأخلاق.. الدولة) وفي ثقافة سياسية عند حكام اليوم والأمس القريب لا ترى خيرا في الحرية إلاّ متى هللت لانجازاتها.. مادمنا في هذه الوضعية الثقافية والسياسية فإن النضال من اجل الحرية يظلّ قائما وضروريا حتى تترسخ الحريات بصفة نهائية في التربة التونسية وحتى لا يأتينا من يستكثرها علينا سواء تعلق ذلك بالحريات العامة أو الفردية..
كل حكام تونس بعد الثورة يقولون بأنهم مع حرية الإعلام ولكنهم يضمرون ما لا يجرؤون على قوله بصراحة أي أنهم مع الحرية «المسؤولة» لان هذه العبارة تنتمي إلى قاموس بن علي وقد وردت في البيان الذي وصل به الى السلطة.. فتراهم عوضوا الحرية «المسؤولة» بتنديدهم المتكرر بـ«الانفلات الإعلامي» أو بإسدائهم لنصائح ودروس و«توجيهات» كلما تمكنوا من ذلك لمختلف وسائل الإعلام ولاسيما العمومية منها تحت غطاء «المهنية» و«الموضوعية» و«الحياد»..
نحن لا نؤمن بثقافة القطيع ولا بعصبية القبائل القائمة على شعار «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فالإعلام كغيره من القطاعات بحاجة إلى إصلاحات جوهرية وهو مخترق ،كبقية فئات المجتمع بمقادير من شبكات الفساد الصغير منها والكبير ولكننا نعلم علم اليقين أن ما يزعج بعض الساسة هو استقلالية الإعلام وعدم الالتزام بالمربع الذي يراد له ألا يتجاوزه بدليل أن نفس هؤلاء الساسة لا يجدون حرجا كبيرا في التعامل مع الإعلام المخترق ما دام طيّعا وقابلا بـ «قواعد اللعبة» ..
ولكن نحن ندرك أيضا أن هنالك العديد من السياسيين داخل الأغلبية الحاكمة وخارجها ينتمون للمدرسة الديمقراطية وعلى هؤلاء جميعا اليوم أن يدقوا معنا ناقوس الخطر، هذا إن كانوا فعلا حريصين على الديمقراطية وعلى نجاح مسار الانتقال الديمقراطي في بلادنا.. لا ينبغي أن نغالط أنفسنا : نحن اليوم أمام مفترق طرق كبير وتتقاذفنا أمواج شتى ومن بين هذه الأمواج من يدعو صراحة أو مواربة الى منظومة حكم تقوم على حرية تحت الرقابة وديمقراطية مقيدة بحجة أن تذرر السلطة اليوم وسطوة الإعلام والهيئات الدستورية هو سبب البلية وعجز الدولة عن تحقيق النمو والتنمية..
قد لا يقصد كل دعاة تعديل النظام السياسي في الدستور التونسي التراجع ولو النسبي، عن الديمقراطية وحرية الإعلام والتعبير ولكن الدعوة إلى تعديل الدستور باتجاه نظام رئاسي فعلي والدعوة إلى تقييد صلاحيات الهيئات الدستورية مع قانون المصالحة في المجال الإداري مع مشروع قانون زجر الاعتداء على الأمنيين مع التبرم الواضح تارة بالإعلام المحلي تحت مسمى «الانفلات» وتارة أخرى بالإعلام الأجنبي بداعي الانحياز وغياب الموضوعية كل ذلك يؤسس لصورة متكاملة قوامها المزج بين النظام الديمقراطي والأساليب السلطوية والتي نسميها تجاوزا بـ«ديمقراطية تحت السيطرة» كاستعادة عصرية لمقولة «المستبد العادل» التي جذبت بعض المصلحين العرب في القرن التاسع عشر ..
كل هذا لنقول بأن ناقوس الخطر الذي دقته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ليس من باب المبالغة في شيء لأننا نعلم جميعا بان كل هذه التجاوزات المسجلة من تهديدات ومحاولة فرض نوع من الرقابة على عمل الإعلاميين إنما هي الجزء الظاهر من الصورة وما خفي عن الأنظار أهم وأخطر بكثير إذ فيه محاولة تطويع، بالإغراء أو التهديد، لكل الأصوات الحرّة وللفضاءات التي لا تقع تحت «السيطرة».. ولسنا ندري هل نحن نجني جملة من السياسات الجزئية والاجتهادات الفردية أم إننا إزاء سياسة ممنهجة وفي النهاية يستوي الأمران..
نحن لا نعتقد أنه بإمكان قوى الحنين للعصا الغليظة أن ينتصروا ولكن المعركة مفتوحة اليوم ونتيجتها غير مضمونة لأحد ..
إنّ أخشى ما نخشاه هو أن يفقد مجتمعنا واعلامنا ايضا جهاز مناعته الديمقراطي فيقبل ببعض التجاوزات باعتبارها حالات «فردية» ويبرر أخرى لأن الإعلامي فلان قد «بالغ» ويقبل بتنازل عن أخلاقيات المهنة لان «مصلحة» المؤسسة أو البلاد تقتضي ذلك ..فمن تنازل، مهما كان بسيطا ، إلى تنازل معه
تحصل الردة ويكون التواطؤ ..
ينبغي أن يقتنع الجميع بأنه لا وجود لحرية مبالغ فيها، هنالك فقط الحرية وما دون ذلك هو السير قدما نحو الاستبداد ..