الوافدة من بلدان عريقة شاع فيها التنظير للحياة الديمقراطية وانتشرت فيها الممارسات الدالة على استيعاب المنهاج الديمقراطي. والواقع أنّ المؤتمرات والندوات التي عقدت في بلادنا بخصوص هذه المبادئ والقيم المساعدة على خلق ‹مناخ سياسي ديمقراطي› قد ساهمت في توعية المواطنين بأهمية المواطنة التشاركية والمسؤولة وبالدور المنوط بالفاعلين السياسيين والحقوقيين وغيرهم في تيسير نجاح مسار التحوّل الديمقراطي.
وانطلاقا من هذا العقد الجديد الذي نظم علاقة المواطنين بالحكومة وممثليها بات من الطبيعي مساءلة أداء النواب باعتبارهم ممثلي الشعب والمدافعين عن الصالح العام، وصار من الضروري متابعة أعمال الحكومة والسياسات المعروضة على النقاش، بل إنّه أضحى من مسؤولية المواطنين أفرادا وجماعات ممثلة للمجتمع المدني أن تسائل أي وزير يخل بواجباته أو يصدر خطابا أو يسلك سلوكا يتعارض مع متطلبات المسار الديمقراطي .
فلا غرابة إذن أن تتوجه الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي ، والجمعية التونسية للدفاع عن القيم الجامعية في 30 ديسمبر 2017 ببيانات مندّدة «بالخروقات» المسجلة على مستوى مناقشة وزير الصحة والمهندس عماد الحمامي رسالة الماجستير في اختصاص الحضارة بالمعهد العالي لأصول الدين (لجامعة الزيتونة ) وتبرز هذه «الاخلالات» في مستوى «تعيين لجنة المناقشة من قِبل لجنة الماجستير، والترتيبات المتّخذة من قِبل إدارة المعهد لمنع المهتمين بموضوع الرسالة من حضور المناقشة الذي يجب أن تكون علنية بمقتضى القانون وترخيصها لطرف ثالث، صاحَب المترشّح طيلة حصّة المناقشة، بتسجيل ملاحظات الأساتذة المناقشين عوضا عنه».ولا عجب أن يعبر عدد من المواطنين عن مواقفهم من هذا التصرّف على صفحات الفايسبوك لاسيما وأنّ الموضوع يتعلق باحترام التراتيب المنظمة للمناقشات العلمية داخل الجامعات حتى لا نساهم في تكريس
«بحث علمي موازٍ و إسناد للشهادات العلمية على القياس» فضلا عن ضمان المساواة بين جميع الطلبة وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الجميع.
لقد تطرّق عدد من المواطنين وممثلون عن المجتمع المدني إلى الموضوع من زوايا مختلفة منها ما يستند إلى الخلفية الايديولوجية لوزير ممثل لحزب النهضة ذي المرجعية الدينية والحريص على بناء صورة قيادييه على أساس أنهم الأنموذج و«مثال في الاستقامة والنزاهة» وهم «يعرفون الله ورسوله»، ومنها ما يتصل بالتطاول على القوانين ـ وترسيخ الممارسات التمييزية على أساس الموقع السياسي لاسيما بعد أن رفض رئيس الجامعة فتح تحقيق بل إنه صار يبحث عن أعذار للوزير ويمدح كفاءته ويتحدث عن حقه في إجراء المناقشة في إطار مغلق ، وهو يعرف جيدا أنه ليس بالإمكان الحديث عن «الحق» في خرق التقاليد الجامعية، وليس من دور رئيس الجامعة إضفاء الشرعية بل فتح التحقيق رفعا لكل الشبهات وتصحيحا للتجاوزات.
بيد أنّنا أردنا أن ننزل هذه الحادثة في إطار سياسي له صلة بما أقرته العلوم السياسية من نظريات ومبادئ تتصل بأداء الفاعلين في هذا المجال. فأية دلالة لهذا السلوك ونحن في سياق الاحتفال بثورة «17 ديسمبر-14 جانفي» التي مازال شبابها يحلمون بالقضاء على التمييز الجهوي، والجندري، والاقتصادي...؟ وأية مصداقية لوزير في حكومة تدعي أنّها تحارب الفساد والإفلات من العقاب وتعمل من أجل تكريس العدالة الاجتماعية؟ وأية عدالة بين الباحثين حين نرسي تراتبية هرمية وفق الوظائف؟ وأي احترام للمؤسسات الجامعية وما تحافظ عليه من استقلالية حين يرسل الباحث/الوزير أمرا إلى المسؤول الإداري بمنع الناس من حضور المناقشة؟ فكيف يمكن أن يتحدث «الحمامي» بعد ذلك عن الشفافية والنزاهة وحق المواطن في الوصول إلى المعلومة وغيرها من المبادئ؟
تتصل المحاسبة بمطالبة الذين يمتلكون السلطة ويسدون خدمات للمواطنين في صلب الحكومة بتقديم إجابات مقنعة عن تصرفاتهم وسلوكهم وأقوالهم فضلا عن الاعتذار عن التقصير أو الاخلال بالواجبات أو القيام بتجاوزات. ولا نخال أن الوزير سيقدم على هذه الخطوة ففي زمن البحث عن «الغنيمة» لا نستغرب أن يكلف موظف بتسجيل الملاحظات لباحث يصر على أداء الاختبارات من موقع الوزير المستعلي بسلطته لا من موقع طالب العلم.. ولكن المساءلة في العرف الديمقراطي تتجاوز الوزراء إلى رئيس الحكومة فالدولة.