قائمته «السوداء» للملاذات الضريبية أو بصفة أدق ضمن الدول غير المتعاونة جبائيا مع الاتحاد الأوروبي والأمران في نهاية الأمر سيان من حيث الوضع الرمزي والسياسي..
لاشك أنه لا وجود لبريء ومتهم في هذا التصنيف الظالم،فتونس والاتحاد الأوروبي كلاهما قصّر في أشياء،وكلاهما مسؤول عمّا حدث ولكن ما يهمنا هنا يتجاوز بسنوات ضوئية هذه القائمة السوداء رغم تأثيرها السيئ على البلاد..
إننا مطالبون اليوم في تونس وفي كل دول الاتحاد الأوروبي أن نجيب عن السؤال التالي: ما هي نوعية العلاقة التي نريد أن نربطها مع بعضنا البعض ؟ هل نريد فقط تحيين الاتفاقيات التجارية والشراكات الاقتصادية التي تربطنا الاثنين، أم نريد شيئا آخر ؟
كل المعطيات الموضوعية والأرقام المتوفرة تفيد بأن الاتحاد الأوروبي هو شريكنا الاقتصادي الأول تصديرا وتوريدا واستثمارا ..ولكن هل نريد نحن كتونسيين دفع هذه العلاقة إلى مستويات أعلى أم لا ؟ أي هل نريد اندماجا اكبر سياسيا وبشريا وثقافيا مع جيراننا في الضفة الشمالية أم نريد الاكتفاء فقط بشراكات اقتصادية ؟
لا يخفى على احد بأن تونس دولة افريقية جغرافيا وأنها غير معنية بالمرة بالانتماء إلى الاتحاد الأوروبي ،ولكن الفضاء الأوروبي وخاصة المتوسطي منه،هو احد أهم فضاءاتنا الطبيعية منذ آلاف السنوات أي منذ الصراع القرطاجني الروماني والحروب البونيقية (او البونية) الثلاث..فضاء لم نشهد فيه الحروب او الاستعمار فقط بل وكذلك التبادل التجاري والبشري والفكري وحتى الديني..فضاء أقمنا معه علاقات سياسية ومعاهدات في مختلف أطوار تاريخنا الطويل.. فهل نريد ان نقيم علاقة حضارية إستراتيجية مع هذا الفضاء أم لا ؟ هذا السؤال لم نجب بعد عنه بصفة واضحة.. والأمر سيان أيضا بالنسبة لشريكنا الأوروبي الذي يعبر دائما عن مساندته لبلادنا ولانتقالها الديمقراطي ويرصد لذلك جملة من الاعتمادات والمشاريع المشتركة الهامة والحيوية لاقتصادنا، ولكن دون ان يعطي افقا حضاريا وبشريا وثقافيا لهذه الشراكة التي يحرص عليها الطرفان في نفس الوقت..
في كل شراكة إستراتيجية (على افتراض حصولها ) لابد من التساؤل عما سيقدمه كل طرف للآخر وأن يتم التعبير عن هذه الانتظارات بكل وضوح..
نحن ننتظر من الاتحاد الأوروبي ما سبق أن وعد به في سياسة الجوار «كل شيء باستثناء المؤسسات» اي كل شيء ما عدا الانتماء الى الاتحاد الأوروبي وإلى مؤسساته .
وعندما نقول كل شيء فنحن ننتظر بداية تبادلا بشريا مبنيا على حرية التنقل وإن بمقادير وعلى مراحل ..تبادل بين الشباب والباحثين والفنانين والمثقفين وأصحاب المؤسسات والمبادرات المجددة والناشطين الجمعياتيين والسياسيين والنقابيين والإداريين والإعلاميين..هذا التبادل البشري المباشر هو أساس كل شراكة إستراتيجية ودونه نبقى في العلاقات التجارية المحضة دون أي أفق سياسي أو ثقافي ..
والتبادل البشري ليس تضحية من الجانب الأوروبي بل هو رهان على المستقبل وعلى شراكة جهوية أوسع قد تشمل في مرحلة ثانية كل دول المغرب العربي فالدول العربية والإفريقية كما بإمكانه أن يصبح أهم فضاء كوني مقابل الفضائين الأساسيين اليوم في العالم ونقصد بهما الولايات المتحدة والصين الشعبية..
وفي هذا الأفق الحضاري بإمكان تونس أن تقدم الكثير لأوروبا ..
أوروبا لن تحتاجنا لإقامة علاقات اقتصادية وتجارية مع احد ،ولكنها لو أرادت إقامة علاقات حضارية بشرية فعندها سيكون دورنا محوريا كميسر للتقارب الثقافي والديني والاجتماعي كذلك .
نحن لا نتكلم عن أوهام أو طوباويات فأوروبا محتاجة لتنخرط في مجال بشري وحضاري أوسع بكثير من مجالها الحالي لتبقي على قدرتها التنافسية أمريكا وعمالقة آسيا الحاليين (الصين واليابان) والقادمين (الهند واندونيسيا). وهذا الفضاء الأمريكي الأوروبي العربي له معقولية داخلية ومبررات تاريخية وقدرة على المواجهة المستقبلية شريطة إقامة علاقات ندية على كل المستويات ولكن دون الانتقاص ولو قيد أنملة من منظومة الحقوق والقيم الكونية والتي كان لأوروبا قصب السبق فيها والتي نعتقد انه بإمكان بلادنا، رغم صغر حجمها،أن تضيف فيها بعدا جديدا مهمّا على مستوى التقارب الاستراتيجي ..
بطبيعة الحال ما نقوله لا يتعارض مع جل المشاكل الآنية ، كهذه القائمة السوداء او انجاز الشراكة الجديدة المقترحة من الاتحاد الأوروبي «اتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمق» (ALECA) مع المصالح الحيوية لبلادنا..ولكننا لا نريد لهذه الشراكة أن تنحصر فقط في هذه الأبعاد ،على أهميتها القصوى،نريدها شراكة أرحب تؤسس لحلم مشترك وفضاء من الرفاه المشترك.
قد يبدو للبعض أن هذا الحلم بعيد المنال وانه طوباوي أو حتى سراب ولكن الحضارة الإنسانية تتقدم بمثل هذه المنعرجات ..وما ينبغي ألا ننساه أيضا أن هذا الحلم ضروري لديمومة كل هذه الأطراف ولمستقبل أفضل لكل الأجيال القادمة في الشمال والجنوب على حدّ السواء