بفضل حرية الإعلام والتنظم وانتخابات تعددية ونزيهة وأنه مازال ينقصنا النجاح في الانتقال الاقتصادي والاجتماعي حتى نحصّن الديمقراطية الناشئة في بلدنا بصفة نهائية..
ولكن ومنذ حوالي السنة أو تزيد أضحت هنالك مخاوف متزايدة من إمكانية التراجع في مكاسب الانتقال الديمقراطي. ولا تتعلق هذه المخاوف أساسا باحتمال عودة نظام استبدادي كذلك الذي عهدناه بل من تعثرات هامة للانتقال الديمقراطي تزيد في هشاشة البلاد وتفتحها على مجاهيل قد يكون بعضها خطيرا على تونس..
قد يقول بعضهم أن هنالك تهويلا كبيرا في بعض الصعوبات السياسية التي تعيشها البلاد وان هذه النظرة التشاؤمية إنما هي من «صنع» جهات لم ترق لها «النجاحات» السياسية التونسية المدوية وأن الذي يشاهد وسائل الإعلام ويرى حيوية النقاش الديمقراطي داخل قبة البرلمان وخارجها لا يمكن أن تساوره أية مخاوف أو شكوك حول حقيقة نجاحنا في الانتقال الديمقراطي وان هذا النجاح نهائي وغير قابل للارتداد..
لنبتعد قليلا عن «التجاذبات» السياسية كما أصبح يقال عندنا ولنسع لتوسيع دائرة النظر حتى نرصد صورة التحول الديمقراطي في مجمله دون التيه في جزئياته..
سوف نتحدث عن نصف الكأس الفارغة وعن العناصر الأساسية التي تكونها دون أن يكون الواحد منها ، بالضرورة، نتيجة او سببا للعناصر الأخرى..
• أزمة الحزب الأول ومخاوف «التوريث الديمقراطي»
غني عن القول هنا بأن الأزمة الحادة التي يعيشها الحزب الفائز في انتخابات خريف 2014 هي من بين أهم عناصر اللااستقرار السياسي في البلاد،لا فقط عند التونسيين ولكن بالنسبة لكل شركائنا في العالم ..خاصة وان هذه الأزمة قد نتجت عن صراع «شق» نجل رئيس الجمهورية في البداية والذي تحول منذ حوالي السنتين أي منذ «مؤتمر» سوسة في جانفي 2016 إلى الشخص الأول في هذا الحزب والذي أحاط نفسه خلال هذه السنة «بوافدين جدد» بعضهم كان من أبرز «منظري» المنظومة النوفمبرية وبعضهم تحوم حوله شبهات ارتباطات ببعض اللوبيات وجلّهم له نظرة غنائمية للحكم وقد تفتقت قريحة بعض هذه «الأدمغة المفكرة» على سيناريو غريب وذلك منذ نهايات السنة الفارطة ومفاده السعي الدؤوب وبكل الوسائل لإقناع رئيس الجمهورية بخوض غمار عهدة انتخابية ثانية وذلك قصد حسن الاستعداد «للتوريث الديمقراطي» بالتعويل على المساندة المطلقة لحزب حركة النهضة ..إذ لا أحد بإمكانه حماية مصالح كل هذه المجموعات الملتفة اليوم حول المدير التنفيذي لنداء تونس إلا المدير التنفيذي ذاته وأن كل حلّ بديل إنما هو خطر ماحق لهذه المجموعات المتآلفة..
• ضعف الحكومات المتعاقبة
هذا الضعف ليس ناجما عن ضعف الأشخاص أو ضعف أدائهم بل عن غياب شبه كلي للمساندة السياسية الفعلية ما دام هم الجزء الرئيسي في التحالف الحكومي هو ما أسلفنا ، ولذلك سقطت حكومة الحبيب الصيد، ولذلك أيضا ستسقط حكومة يوسف الشاهد وإن كانت الدوافع في كلتي الحالتين مختلفة..
والمهم الآن هو أنّ كل شركاء تونس أصبحوا مقتنعين بأننا أمام حكومة أيامها معدودة وهي لن تتجاوز في كل الحالات السداسي الأول من سنة 2018،والأرجح أن يتم إسقاطها أو تعويضها في أفق الانتخابات البلدية القادمة، أي قبل شهر رمضان في كل الأحوال ..
• تهميش دور المؤسسات الدستورية والهيئات القانونية
يمكن أن نعيب على هيئة دستورية أو قانونية أداءها أو بعض مواقفها وهذا جزء لا يتجزأ من الحوار الديمقراطي ولكن يبدو انه غائب عنّا أننا بصدد إرسال صورة سيئة للغاية إلى كل شركائنا الأساسيين في الخارج والى الرأي العام الديمقراطي في الداخل وتقوم هذه «الرسالة» على تقزيم دور كل الهيئات الدستورية والقانونية وذلك على مستويات ثلاثة : سياسيا وإداريا وماليا.
فهنالك اليوم رغبة واضحة في الحد من استقلالية وسلطة الهيئات الدستورية والقانونية واعتبار أنها ، أو بعضها، أصبحت دولة داخل الدولة وأنها تغولت على الدولة وان الشرعية القانونية الأساسية هي للهيئات المنتخبة مباشرة من قبل الشعب (أي مجلس النواب ورئيس الجمهورية وغدا المجالس البلدية والجهوية) وان شرعية هذه الهيئات الدستورية والقانونية إنما هي نابعة من شرعية تفوقها وبالتالي من حقها مراقبتها وتحديد مجالات عملها وتدخلها..وهذا له تفسير واحد : الأغلبية الحالية لا تريد الانسجام مع روح الدستور وأحيانا مع نصه في ما يتعلق بالهيئات الدستورية والتي خصّها بباب كامل من أبوابه العشرة.. والانطباع الذي سينتج عن هذا مباشرة هو وجود إرادة لإطلاق يد السلطة ممثلة في السلطة التنفيذية وفي أغلبيتها النيابية..
وهنا ينبغي أن ندرك بان كل النقد الذي يمكن أن نوجهه لهيئة من الهيئات الدستورية والقانونية ولو كان مشروعا وموثقا فهو لا ينفي هذا الانطباع العام ، فالتشخيص عن بعد واضح وجلي:
- العبث بهيئة الانتخابات
- تجاهل الهايكا
- شبه إقصاء لهيئة الحقيقة والكرامة
- خلاف حاد مع المجلس الأعلى للقضاء
- عدم بعث المحكمة الدستورية وذلك بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الانتخابات التشريعية فيما أن الدستور يوجب انتصابها بعد سنة فقط من هذه الانتخابات .
- عدم قيام ثلاث هيئات دستورية من أصل خمس
- ضعف الإمكانيات المادية واللوجستية لبقية الهيئات..
• تعطيل السلطة المحلية
عدم الاتفاق النهائي على موعد الانتخابات البلدية والتغييب التام للحديث عن الانتخابات الجهوية وعدم البدء مطلقا حتى في مجرد التفكير في توزيع مختلف جهات (ولايات) البلاد إلى أقاليم أي أننا لن نستعمل باب السلطة المحلية في الدستور إلا في سنة 2021 في أحسن الأحوال.. ويمكن أن نبرر هذا التأخير كما نريد ولكنه لا يؤول عند أصدقائنا وشركائنا إلا بصفة واحدة : تعطيل المسار الانتخابي والسلطة المحلية أي في نهاية الأمر تعطيل الديمقراطية والمشاركة الشعبية..
• • •
عندما نضع كل هذه العناصر جنبا إلى جنب ونبتعد قليلا عن صراعاتنا اليومية نكتشف حجم الكارثة ونفهم لم أصبح ينظر الينا كبلد حقق نجاحا فريدا في العالم العربي ولاشك وبدأ في تأسيس ديمقراطية فعلية ولكن خطاه اليوم متعثرة والطبقة السياسية فيه تعطي الانطباع بأنها لا تدري أين تسير وان المطامح الشخصية والفئوية والحسابات الحزبية الضيقة هي المهيمنة عليها..
انه من السهل ان نضع حدا لكل هذه الأخطاء وأن نعيد الثقة ببلادنا وبانتقالها الديمقراطي ، ولكن لهذا ثمن لا ندري هل ستكون الطبقة السياسية الحاكمة قادرة عليه أم لا وهو تطبيق الشعار الذي طالما ردده الباجي قائد السبسي في حملته الانتخابية.. الوطن قبل الأحزاب ..ويمكن أن نضيف إليه: أحزاب الأفكار والبرامج لا تجمعات المصالح واللوبيات ..