المؤشرات الأولية تفيد بأننا أمام ما يمكن أن نسميه بالإرهاب الرثّ والمشهور في أوروبا باسم «Le terrorisme low cost» أي «الإرهاب البخس» ذاك الذي لا يحتاج إلى شبكات معقدة ولا يعتمد على أسلحة حربية أو متفجرات وقد يقوم به فرد معزول أو مجموعة قليلة العدد غير مرتبطة عضويا بتنظيم إرهابي محدد وتستعمل أسلحة بيضاء أو سيارات أو شاحنات للدهس كما كان الحال في بعض المدن الأوروبية.
هذا الإرهاب الرثّ يمثل ولاشك مخاطر جديدة لأن اختراقه أعسر من اختراق المجموعات المسلحة المنظمة ولأن عنصر المباغتة فيه اكبر بكثير كذلك ولكنه مع ذلك يدل على الفشل الكبير لجماعات الدّم وأنها لم تعد قادرة على القيام بما تسميه بالعمليات النوعية أي تلك الضربات التي توحي بالقوة رغم أن بعض عمليات الإرهاب الرثّ قد تحدث خسائر كبيرة في الأرواح كما كان الحال في مدينة نيس الفرنسية في السنة الفارطة..
الإرهاب الرثّ ظهر مع داعش بالأساس والهدف منه هو تمدد التهديد الإرهابي وتنوّع اشكاله ومظاهره بما يعسّر على القوات الأمنية في أي بلد مستهدف حسن التصدي له ..
والفرق – إلى حد الآن – بين تونس وبين الدول الأوروبية هو في الأهداف البشرية للإرهاب الرث ّ ففي أوروبا يستهدف الإرهاب كل الأهالي باعتبارهم كفّارا أصليين أما عندنا فهو مازال يقصد فقط القوات الحاملة للسلاح باعتبارهم «جند الطاغوت» حسب هذه العقيدة الدموية المنحرفة..
لسنا ندري إلى حد كتابة هذه الأسطر هل نحن أمام إستراتيجية جديدة للجماعات الإرهابية التونسية التي تكاثرت هزائمها وخسائرها محليا وإقليميا ودوليا أم أمام عملية قام بها عنصر تكفيري من تلقاء نفسه أو بدعم من مجموعة صغيرة من تكفيريي المنطقة التي يقطن بها .. ولكن في كل الأحوال لابد من التوقي من احتمال تمدد هذا النوع من الإرهاب الجديد / القديم ..
لقد ضربت الجماعات الإرهابية المسلحة بلادنا في العمق خاصة مع ملحمة بن قردان في مارس من سنة 2016 حيث تم القضاء على أكثر من خمسين عنصرا كما اعتقل آنذاك أكثر من ستين إرهابيا في علاقة بهذه العملية هذا بالنسبة للدواعش عندنا. كما أصيبت الجماعات المنتمية لما يسمى بتنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي بضربات متتالية أثخنت كثيرا فيها وأفقدتها الجزء الأكبر من قدراتها القتالية ..ولكن الإرهاب لم ينته لأنه ليس ظاهرة محلية ولأن حواضنه الفكرية والاجتماعية مازالت قائمة رغم انحسارها ورغم الرفض الشديد وشبه الاجماعي ضدها ..
لا وجود لفوارق جوهرية بين الإرهاب المسلح والمنظم والإرهاب الرثّ..الفوارق قد تكمن في طبيعة الأفراد وفي مستوى تكوينهم الحربي إذ كل من أقدم على عمليات الإرهاب الرثّ في العالم لا يملك تكوينا على الأسلحة ولم يلتحق بمجموعات قتالية بعينها وحتى انتماؤه إلى جماعات الدم يبقى سطحيا وهامشيا وهذا الضعف في مستوى العناصر هو الذي يمثل خطورتها البالغة لأننا نتحدث عن تكفيريين قد يكونون خارج المتابعة الأمنية أو حتى غير معروفين من قبل أجهزة مكافحة الإرهاب ..
والأرجح أن هذا الإرهاب الرثّ سيسعى لاستهداف ما يعتبره الحلقة الأضعف في القوات الحاملة للسلاح اي شرطة المرور أو الأمنيين والعسكريين المعزولين أو عندما يكونون خارج أوقات عملهم ..
وفي الحقيقة هذا التهديد الإرهابي ليس جديدا وقد سبق لمجموعات ولأفراد تكفيريين أن استهدفوا أمنيين في هذه الوضعيات المذكورة والمطلوب اليوم هو توخي ارفع درجات الحذر حتى نحبط هذه المخططات الإجرامية في المهد ما أمكن وحتى نحصن ما أمكن كذلك كل أسلاكنا الحاملة للسلاح.. فهذا من اوكد أولويات الخطة الوطنية لمكافحة الإرهاب ولا نخال أن القيادات الأمنية والعسكرية والسياسية مقصرة في هذا المجال ..
نقطة أخيرة : لا علاقة إطلاقا لحماية الأمنيين وعائلاتهم وممتلكاتهم من المخاطر الإرهابية بمشروع زجر الاعتداء على القوات الحاملة للسلاح لأننا نتحدث هنا عن جرائم إرهابية تجد في قانون مكافحة الإرهاب أشد العقوبات بينما يستهدف مشروع القانون المشار إليه في جزئه الثاني الاعتداءات غير الموصوفة بالإرهابية وعليه فخلط الأمرين معا لا يفيد أحدا ، مع إقرارنا القوي بأنه يجب حماية الأمنيين ومقراتهم وعائلاتهم من كل اعتداء من أي صنف كان ومن تشديد العقوبات كلّما لزم الأمر ذلك ولكن في فلسفة لا علاقة لها بهذا المشروع الذي لا يهدف إلى حماية الأمنيين فقط بل وأيضا إلى ضرب الحريات الإعلامية والعمل النقابي الأمني ذاته..
المهم على كل حال أن الخلط بين الحادثة الإرهابية التي حصلت يوم أمس لها جوابها القضائي المخصوص وهو قانون مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال أمام مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح فلنا عودة مفصلة إليه في موعد قادم ...
نتمنى مجددا العافية والشفاء العاجل للرائد رياض بروطة والأمن والسلامة لكل مواطنينا من هذه الآفة والتي سندحرها لا محالة طال الدهر أو قصر ...