دون الحديث عما أضحى يسود محيطنا اليومي من عنف لفظي ومادي في الطريق العام..
لا نملك إحصائيات دقيقة عن كل أصناف العنف هذه ولكنها تعد بمئات الآلاف وغالبيتها الساحقة لا يتجاوز وقعها الإطار المباشر الذي تحصل فيه..
تكاد تونس تصبح في تصور قصووي ، كتلك الفرضية التي ابتدعها فلاسفة العقد الاجتماعي «حالة الطبيعة» (l’état de nature) وهي الحالة الافتراضية قبل الانتظام البشري في إطار الدولة حيث يصبح العنف أحد التعبيرات الأساسية لحرية الفرد في الاعتداء على غيره أو الدفاع عن نفسه..إنها حرب الكل ضد الكل .. والكل خاسر فيها في نهاية الأمر ..
حالة الطبيعة عند فلاسفة العقد الاجتماعي (منتسكيو وروسو وهوبز ولوك وغيرهم) هي الحالة التي تسبق الدولة ،أي أن الدولة تأتي لحل معضلة حرب الكلّ ضد الكلّ فقيامها هو استيعاب لجلّ العنف واستئثار به فوحده عنف الدولة يصبح عنفا شرعيا أما عنف الأفراد فيصبح خروجا عن القانون..
في تونس هنالك دولة ولاشكّ ولكن جذور سلطتها قد تزلزلت مع الثورة فحافظت على بهرجها الخارجي ولكنها فقدت سلطتها الطبيعية على المجتمع وهي تسعى جاهدة لإعادة إنتاج عقد اجتماعي جديد بالتفاوض – المرتبك أحيانا – مع كل مكونات المجتمع..
هذا الضعف النسبي للدولة ولأسس سلطتها هو الذي يفسر انسياب موجة العنف الكبيرة داخل المجتمع..أي وكأن الدولة فقدت ،بفعل الثورة ،جزءا من عنفها المختزن وكأن الأفراد عادوا – بأشكال مختلفة – إلى ما يشبه حالة الطبيعة والى تأسيس علاقات مبنية فقط على موازين القوة البدنية أو التنظيمية أو قوة العدد أو قوة «القبيلة» التي ينتمي إليها كل فرد..
لم نرد أن نرى في الثورة، في بدايات ألقها ، سوى جوانبها الملائكية المثالية : التضامن بين الناس وافتكاك الحرية من الطاغية .. ولكن ومنذ الأيام الأولى انفجر المكبوت وتفاقم العنف بنسب لا عهد لنا بها .. عنف استفاد منه المجرمون والمنحرفون بداية ولكنه عنف تسرب إلى كل مكونات المجتمع والى ما يمكن أن نسميه بالشخصية التونسية ..عنف في التعبير عن الرأي وعنف في المطالبة بالحق وعنف تجاه المخالف وعنف تجاه الآخر ، أيا كان هذا الآخر..
ولنقلها بصراحة : الدولة العادية في الأوضاع العادية ليست مهيأة لمجابهة كل أنواع العنف المنفلتة والمجتمعة..فجهازها القمعي مجعول لمجابهة عنف هامشي وانحراف محدود..ولكن جل الدول ليست قادرة على مواجهة عنف متعدد الأبعاد والأماكن والأشكال والغايات ..عنف الجماعات الإرهابية ومجموعات الجريمة المنظمة والجريمة العادية وعنف المواطنين الفردي والجماعي ..
الرد المناسب على كل أشكال العنف هذه يقتضي جهازا قمعيا ضخما تتحول معه الدولة إلى دولة بوليسية قلبا وقالبا .. ولكن لو استسلمت الدولة والمجتمع لموجة العنف هذه لكان الخراب المحقق..
ما العمل ؟
أولى خطوات مقاومة العنف هي الإعلان التام والمطلق له ..من قبل الدولة ومن قبل المجتمع كذلك فلو واصلنا كأفراد وكأسر وكمجموعات سكنية أو مهنية في اللامبالاة تجاه كل مظاهر العنف فنحن نغذيه ولا نقاومه..
إعلان المقاومة لا يعني التهور أو المجازفة بسلامة النفس ..هي تعني فقط ألا نقبل فرديا وجماعيا بكل أشكال العنف مهما كانت بسيطة وان نتآزر جماعيا لمقاومته سلميا كلما تيسر ذلك ..ولكن سيبقى هذا الجهد دون نتيجة ما لم تعلن الدولة بكل أجهزتها حربا على العنف مهما كان بسيطا..الهدف هو ألا يبقى فعل أو سلوك عنيف دون ردع قضائي أو إداري ..
لا يمكن أن نقبل بأن تبقى أعمال العنف التي تثير مشاعر الرأي العام دون عقاب سريع..فما حصل في المستشفى الجامعي بسهلول أو غيره ينبغي أن يجد جوابا
أمنيا وقضائيا في ظرف أسابيع فقط وينبغي أن يتم إشهار العقاب حتى يرتدع كل من تحدثه نفسه بالقيام بفعلة مشابهة في مكان آخر ..
نحن اليوم بحاجة إلى هبّة شعبية ورسمية لنقول بصوت واحد لا للعنف آيا كان ومهما كانت طبيعته ودوافعه، الى ان تتحرك الآلة القضائية بالسرعة المطلوبة وبالردع الكافي ..فما ينمّي العنف هو الإفلات من العقاب والشعور بنوع من الحصانة الاجتماعية نتيجة اللامبالاة الجماعية..
تحتاج مقاومة العنف في حياتنا اليومية إلى تغيير في زاوية النظر والى إعلان ما يشبه حالة الحرب وإتباع سياسات عمومية ملائمة على مستوى المعمار وتوفير الحماية الكافية..
فالهدف هو محاصرة كل مظاهر العنف أيا كانت تجلياته..عندها وعندها فقط نعيد بناء العقد الاجتماعي وعيشنا المشترك على قواعد سليمة..