الثقافي الحالي ما عاد يسمح بطرحها من ذلك أنّ جزءا من الإعلام المصري انساق وراء خطاب احتل فيه موضوع الردّة المركز. فبات الحديث مرّة أخرى عن ردّة الحاكم الذي يقدم على استبدال أحكام الله بالقوانين الوضعية ، وردّة الدولة التي لا تطبّق شرع الله. ولعلّ المفارقة العجيبة أنّ بعض الإعلاميين والمحلّلين الذين تبنّوا هذا الخطاب التكفيري ال’قطبي’ هم أنفسهم الذين يشنّون حربا على ‘الإخوان’ بل إنّ هؤلاء الذين يشاركون في مكافحة الإرهاب لا يتوانون عن استرجاع حكم ردّة الحاكم وردة الحكومة وردّة الدولة والحال أنّ ‘داعش’ هي التي أحيت هذا الحكم فتخلّصت من أعدائها على خلفية الارتداد وتلك لعمري مفارقة أخرى في تعاطي بعض الإعلاميين المصريين مع المبادرة الرئاسية التونسية.
ولئن أشادت بعض النسويات والناشطات الحقوقيات بالريادة التونسية في مجال حقوق النساء فإنّ بعض الإعلاميات اللواتي اعتقدن أنّهن قادرات على التأثير في الجماهير قد انفلت عقالهن فانطلقن في العويل والشتم وأحدثن الضجيج فضاع خطاب ‘التعايش والتسامح’ بين مختلف الطوائف في مصر وتوارت الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، وهبّ خطاب الكره والاستعلاء. فكيف يعقل أن يتزوّج المسيحي مسلمة؟ بيد أنّ المسكوت عنه في ثنايا هذا الخطاب المتشنج هي الجنسانية . فما لم تستطع تقبّله بعض الإعلاميات هو أن تلتحم الأجساد فتذوب فوارق الدين والطبقة والسنّ والعرق وغيرها. وهكذا ظلّ ردّ الفعل انفعاليا متعاليا على الواقع الذي يعجّ بقصص هروب الفتيات المسلمات للزواج بمن أحببن بقطع النظر عن انتمائهم العقدي وقصص حرمان النساء من حقوقهن.
أمّا الدعاة الذين احتكروا المشهد الإعلامي طيلة عقود من الزمن فكانوا يهيمنون على العقول والقلوب فإنّهم عادوا إلى تأليب الناس ضدّ العلمانيين .وكأنّ الاستقطاب الحديّ هو ‘جهادهم’ المفضّل.وتكمن المفارقة في أنّ أغلب الفارّين إلى البلدان العلمانية هم الذين يكفّرون العلمانيين ويشهّرون بتونس التي خرجت عن السرب.
خطاب الكره والشتم والعداء الذي نجد صداه في بعض الصحف المصرية يفضح الإفلاس المعرفي ويشير إلى أنّ الشوفينية ساهمت في إحداث قطيعة مع الواقع الاجتماعي ومع مسار تطور المعارف فلم تعد مصر رائدة النهضة المعرفية بل انتزعت ‹دويلة تونس› الريادة فقادت قاطرة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ2011 وكتبت دستورا متميّزا بالرغم من بعض الهنات الموجودة فيه، وحقّقت الاستثناء بمحاولة إنجاح مسار التحوّل حتّى وإن كان ذلك بعسر شديد. وها هي اليوم تفتح النقاش المجتمعي حول قضية المواطنة الفعليّة وضمان الحريات الفردية .
ونتفهّم ردود الفعل المتشنّجة .فهؤلاء الذين هبّوا من مراقدهم يتحرّكون في أفق يملك فيه الزوج جسد المرأة ضمن «عقد التلذّذ بآدمية واستئجار البضع››...ونحن نتحرّك في أفق يسود فيه عقد رضائي تشاركي قاعدته الحبّ والمودّة وحفظ الكرامة...إنّهم يتحركون في أفق تغتصب فيه إرادة المرأة وحقوقها بدعوى المحافظة على الأعراف والتقاليد ونحن نتحرّك في أفق يسود فيه حقّ المرأة في اختيار الشريك وفي تقرير المصير... إنّهم يتحرّكون في أفق ضرب المؤسسة الدينية والدعاة الوصاية والهيمنة على العقول ونحن نتحرك ضمن أفق يروم تحرير العقول ...إنّهم يؤثرون الرياء والنفاق ونحن نطمح في أن نقضي على الازدواجية.
إنّ من هبّوا من مراقدهم عاجزون عن إنتاج خطاب معرفي جديد ...غاية ما يملكونه السبّ والسخرية ولذلك فإنّهم لن يتركوا أثرا . وشتّان بين جيل المبدعين كنصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ وأحمد فؤاد نجم ونوال السعداوي وفاطمة الناعوت وغيرهم وهؤلاء الغوغائيين الذين يحترفون اللعن.