حينا و التهجّم والاتهام والتكفير حينا آخر مع الإشارة إلى بعض التصريحات «البينية»التي حاولت إمساك العصا من الوسط.
وبصرف النظر عن مختلف أشكال التعبير عن الآراء وبنية الخطاب من حيث ترتيب الأفكار وأساليب الاحتجاج ونوعية البراهين المقدمة وغيرها من العناصر فإنّ الملفت للانتباه في الردود غير الرسمية هو غلبة الانفعالات والتعبير عن العواطف على أصحابها إذ انفلت العقال وما عاد بالإمكان ضبط النفس. وضمن هذا المناخ الانفعالي ضاعت الردود العقلانية وتقلصت مساحات النقاشات الهادئة.
أمّا المواقف الرسمية فإنّها تعددت وفق الناطقين بها وكانت في الغالب، ذات مقصد دفاعي- هجومي. فالبعض يدافع عن مدنية الدولة ودستورية القوانين والمساواة والتاريخ النضالي، ويشنّ في المقابل حربا على أعداء «الحداثة»... والبعض الآخر يستأسد في سبيل الدفاع عن الإسلام والهوية والقيم الدينية والأسرة والوحدة الاجتماعية....ويرشق خصمه بسهام الكفر والردّة والتغريب وعداء الدين...
ولئن كان النقاش ظاهرة صحية مخبرة عن توجّه ديمقراطي وديناميكية ثقافية فإنّنا نعتبر أنّ المسار الذي اتّجه فيه الجدل قد يكون مؤشرا على انزياح خطير من شأنه أن يحرمنا من دخول التاريخ من بابه الكبير.فالمنتظر في هذا السياق التاريخي الذي مرّت به التجربة التونسية الاستثنائية أن ننجح في اجتياز الاختبار الاجتماعي -الثقافي. ولن يتسنّى ذلك إلاّ متى أدركنا الآتي:
- إنّ طرح القضايا الرئيسية على النقاش يتطلب توفّر مجموعة من الشروط منها النزاهة والرغبة الحقيقية في إنجاز المراجعات والقدرة على تفكيك الظواهر والتعمق في فهم التناقضات والتمكّن من حسم حالة الانفصام بكلّ جرأة وشجاعة. فهل بإمكان التونسي/ة أن يتصالح مع ذاته ويخرج من النفاق الاجتماعي والرياء الديني؟
- إنّه لا يمكن الاستمرار في عملية اختزال المبادرة الرئاسية في ‘المساواة في الإرث وزواج التونسية المسلمة بغير المسلم’ والنظر إليها على أساس أنّها «قضايا النساء».فالمسائل التي تنتظر التحليل والمراجعة وإعادة الترتيب فالحسم أشد تعقيدا وذات طبيعة مركبة ومن ثمّة لا مجال للتركيز على البعض وتهميش البعض الآخر. فهل بإمكان التونسي/ة أن لا يراوغ ويقتنع بأنّ المنظومة القيمية كلّ لا يتجزّأ ؟
- إنّ المسألة تتعلّق بالخيار المجتمعي والتصالح مع الحاضر وكيفية بناء الإنسان ورسم المستقبل. ولن يتسنّى لنا وضع لبنات المشروع المواطني وصياغة رؤية مشتركة إلاّ متّى فتحنا فضاءات النقاش الرصين والحوار الهادئ، وهو دور موكول لمختلف مكونات المجتمع المدني ولمختلف وسائل الإعلام التي عليها أن تتعظ من الهفوات التي ارتكبتها في السابق بحثا عن الإثارة . فهل بإمكان المجتمع المدني أن ينهض بمسؤوليته؟
إنّنا أمام اختبار كبير يتجاوز شخص الرئيس واللجنة التي كلّفت بتحرير التقرير...إنّها مسؤولية كلّ التونسيين والتونسيات حتى لا تضيع عنّا الفرصة التاريخية. فإمّا أن نحسن إدارة النقاش المجتمعي ونبتعد به عن «المراهقة» و«الصبيانية» و«التوظيف السياسي» و«المناورات» والأجندا السياسية وصراع الأنوات ونراقب كلّ محاولات ضرب النسيج المجتمعي ونتسم باليقظة والرصانة أو أن نستسلم لأباطرة التلاعب بالعقول من المتاجرين بالدين والهوية والحداثة والبورقيبية ...
إنّ الفرصة متاحة لتجاوز أزمة انعدام الثقة في الآخر ، والخوف منه، والخروج من حالة الاستقطاب: كافر/مؤمن، علماني/إسلامي، علمانية/نهضاوية ...ومن ثمة فتح فضاء للنقاش المعمّق بين الفاعلين الثقافيين والحقوقيين والجامعيين من مختلف الاختصاصات كما أنّنا نقدّر أنّ السياق ملائم للجمع بين النسويات والإسلاميات علّهن يتدربن على الإصغاء إلى بعضهنّ.
ولئن بادر «قائد السبسي» بفتح باب النقاش حول القضايا «العالقة» والمؤجلة فهل يبادر «الغنوشي» بفتح فضاءات النقاش علّنا نتجاوز الخلافات المبتذلة وردود الفعل السطحية فنخلق ديناميكية تجدّد حركة الاجتهاد وتبدع إنتاجا فكريّا فذّا يليق بنا؟