الاسلامويون والقومويون والعنف ضدّ المرأة: تطورات تكتيكية وخطابات ديماغوجية وتلفيقات إيديولوجية ..

المتابع للنقاش النيابي العام حول مشروع القانون المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة يلحظ وراء الإجماع الفضفاض الظاهري مستويات من الخطابات الملتبسة عند الإسلاميين

بأصنافهم وعند فصيل كذلك من القوميين يتراوح بين الإقرار الظاهري بضرورة القضاء على العنف المسلط على النساء وتنسيب في الطرح يصل أحيانا إلى إفراغ الفكرة من جوهرها ..

كلّ التدخلات النهضوية أبدت تنديدا شديدا بالعنف ضد المرأة وبضرورة القضاء عليه ولكن عندما أراد بعضهم دعم هذا التنديد بالاعتماد على « المنظومة الإسلامية» كما الشأن عند النائب الصحبي عتيق رأينا تهافتا في الأفكار وتلفيقا يشي بالحرج العميق عند الإسلاميين بالإقرار الكلي والنهائي بمنظومة حقوق الإنسان دون تنسيب ودون ما يسمونه أيضا بالتأصيل أي إرجاع هذه القيم والمبادئ إلى ما يسمى بأصول ومقاصد الشريعة الإسلامية..

لنبدأ بالقضايا المباشرة ولنسأل السيد الصحبي عتيق – وهو مختص في العلوم الإسلامية كما يقال – وإخوانه في النهضة : هل أن مشروع القانون الذي ستصادقون عليه بحماسة واضحة ينسجم أو يتناقض مع الآية الكريمة في سورة النساء : «(...) واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهنّ في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا»(الآية 34) ؟!

لنتناقش بهدوء ودون استدعاء المقدس لطمس القضايا : هل أن «الضرب» الوارد في سورة النساء يتناقض أو يتلاءم مع «القضاء على العنف ضدّ المرأة» ؟

كيف ستفعلون غدا، وانتم مشرعون ، عندما يأتي مواطن إلى القضاء ويقول إن العنف الذي مارسه ضد زوجته كان في باب التعزير خوفا من نشوزها ؟ !

المسالة ليست شكلية ولا تتعلق بجزئيات فلكلورية بل بجوهر التفكير السياسي والعقائدي .

هل ستقولون بأنكم لا تحتكمون للقران الكريم في مجال التشريع ؟ وعندها لِمَ تحتكمون إليه في قضايا أخرى كالميراث على سبيل المثال ؟ ! والحال أن آية «الضرب» أوضح في اللغة من الآية التي تقر اللامساواة في الميراث «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين(..)» (سورة النساء الآية 11) فلمََ نغض البصر عن الآية 34 ونتحاكم دوما إلى الآية 11 ؟ !

أم لكم تأويل خاص لكلمة «الضرب» يصرفها عن معناها الأصلي ليعطيها مضمونا لا علاقة له بأي اعتداء جسدي ؟

إن كان هذا هو نهجكم فلم لا تتوسعون في تطبيقه على ما بقي من الآيات التشريعية التي ما زلتم تتمسكون بها ؟

أو لعلّكم تذهبون إلى ذلك التفسير الذي يقول بان «الضرب» الوارد في الآية الكريمة يجب أن يكون «غير مبرح» أي قليل الإيلام ولا يترك أثرا واضحا على من وقع عليه ..أي أنكم لستم ضدّ ضرب المرأة في المطلق ،بل ضدّ ضربها ضربا مبرّحا فقط ؟!

ثم انتم أصبحتم من أنصار مجلة الأحوال الشخصية بعد أن كنتم من ألدّ خصومها..

وهذا التطور محمود ولكن لِمَ لا تستنتجون منه موقفا متناسقا منسجما لا تلفيقا متهافتا لا يصمد أمام عقل طفل صغير ؟ !

الم تلغ مجلة الأحوال الشخصية جملة من الأحكام الشرعية الواردة بصراحة في القرآن الكريم كالطلاق الذي كان بعصمة الرجل فأصبح من اختصاص القضاء المدني !..

لا نحدثكم هنا عن تعدد الزوجات لأن تأويلكم البعدي أصبح معروفا : للحاكم أن يمنع المباح ، والتعدد من المباحات ولكن احكام الطلاق في سورة النساء ليست من المباحات فلم تقبلون بتعطيلها – بل إلغائها – وتتمسكون بأحكام اخرى ؟ أهو الرضوخ للأمر الواقع أم تلفيق بين شذرات من اليمين والشمال لا يجمع بينها جامع ؟

ما لا يريد «العقل الاسلاموي» الإقرار به – حتى في صورته النهضوية المعدلة – أن كل أحكام الشريعة الإسلامية قائمة على فلسفة تناقض منظومة حقوق الإنسان أو لنقل بأنها مختلفة عنها تماما ، وحدها الروحانية الإسلامية (أو التصوف الإسلامي ) قادرة على التأقلم مع قيم العصر الحديث ..

فضرب الزوجة وتعدد الزوجات والتطليق واللامساواة في الميراث ..ليست أحكاما جزئية نستنبط لكل واحد منها اجتهادا متزحلقا خاصا به بل هي أحكام تجد انسجامها الكلي في مجتمع السلطة فيه للذكر المسلم الحرّ وهذه السلطة الأصلية هي التي تعطي هذا الإطار التشريعي التمييزي ولا يفيد هنا القول بان التشريع الإسلامي قد احدث تقدما هاما مقارنة بما سبقه أو حايثه،فهذا ليس محل النقاش هنا ، محل النقاش هو أن هذا التشريع (أي التقنين لعلاقات بشرية معينة ) جاء في مجتمعات قائمة على ما كان يسميه الراحل محمد الشرفي التمييزات الثلاثة : مسلم / غير مسلم وحرّ / عبد ورجل / امرأة ..هذه التمييزات كانت سائدة في كل الحضارات والمجتمعات إلى مشارف تاريخ البشرية المعاصر حيث أضحى الإنسان مساويا في الحقوق والواجبات للإنسان وذلك بغض النظر عن فروق الدين والجنس (النوع الاجتماعي ) والعرق ..

صحيح أن المراجعات النهضوية والتي لا ينكرها إلا معاند – لم تعد تسمح بالدفاع عن هذه التمييزات الثلاثة ولكنها لم تنقل بعد أصحابها إلى قارة حقوق الإنسان بالكلية فظلّ النهضويون يخلطون بين هذين المجالين كما اتفق، بوصلتهم الوحيدة المغانم والخسائر السياسية التي يمكن أن يجنوها أو يتكبدوها جرّاء موقف ما خاصة عندما يكون في منطقة تماس مع هذه التمييزات الأصلية لان التخلي الواضح والنهائي عنها يعني ببساطة التخلي الواضح والنهائي عن فكرة أن الإسلام دين ودولة عقيدة وشريعة..

إسلام الفلاسفة والمتصوفة يمكنه أن يعيش بين ظهرانينا ..بل ويمكنه أن يثري حياتنا الاجتماعية والنفسية أما إسلام الفقهاء وخاصة عندما يريد أن يكون حلا جماعيا فلن ينتج سوى مختلف مظاهر ومجموعات التعصب والتطرف والعنف.

هذا الحرج الأصلي والتلفيق بين مكونات فكرية وروحية مختلفة دفع النهضويات والنهضويين – بوعي أو دون وعي – إلى نوع من المزايدات السياسية والى تكرار الحديث عن العنف السياسي الذي سُلِّطَ زمن الاستبداد على المرأة النهضوية بحكم التزامها الديني أو السياسي كمن يريد أن يقول : انتم الحداثيون لستم أفضل حالا منّا ما دمتم قد صمتم أو حتى زكيتم هذا العنف المسلط علينا سابقا..فكلّنا تجاه العنف سواء وكلّنا في التنديد به قد قصّر ..ولكن الموضوع لم يكن يتعلق بالعنف السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي وكل أشكال العنف هذه مرفوضة ، بل بالعنف الجندري الذي ينصبّ على المرأة منذ غياهب الدهر لأنها امرأة ولان كل الحضارات القديمة – أو غالبيّتها الساحقة – قد قامت على ضرورة التحكم الذكوري في جسدها ، والقضاء على العنف ضد المرأة اليوم يعني القضاء على كل المقومات المادية والذهنية والروحية لهذا التحكم الذكوري الذي امتد عبر آلاف السنين .

الطريف في جلسة أول أمس انها قدمت لنا بصفة اركيولوجية التفكير النهضوي الاخواني الأصلي والذي وجدناه هذه المرة عند النائبة الشابة عن تيار المحبة ريم الثائري التي اعتبرت أن هذا المشروع مناف للشريعة الإسلامية ومدمر للعائلة التونسية ..

أما النائب سالم الأبيض عن حركة الشعب والذي يمثل تيارا قوميا عربيا خاصا فكان بدوره صورة اركيولوجية للتقليدية العربية المعتمدة على خطاب سياسي ثورجي راديكالي معاد للقوى العظمى وللامبريالية وللصهيونية ..لكي نبرر به الإبقاء على المعادلات المجتمعية القديمة ما دامت «النسوية المتطرفة» قد نهلت من مشارب معادية للامة قصد الانتصار للمثلية الجنسية المفروضة علينا من الاتحاد الاوروبي (نعم هكذا) وبالتالي قد تكون هذه الخطوة «القضاء على العنف ضد المرأة» مؤامرة من الأعداء لضرب هويتنا العربية الإسلامية (الاستنتاج من عندنا ولكن هكذا بدا لنا سياق الخطاب ..)

هذه الحفريات الاركيولوجية عند تيار المحبة وحركة الشعب تبيّن ولا شك بان المهضويين قد بذلوا جهدا كبيرا للابتعاد عن منطلقاتهم الأولى ..ولكن مازالوا كالطائرات المحلقة في السماء في فضاء الجاذبية الأرضية لا فكاك لها منه ..

ما ينقص هذه الطائرات هو قوة الدفع الصاروخية التي تحرر صاحبها مطلقا من الجاذبية الأرضية ..وحينها سيكتشف كما قال قبلهم المرحوم «قاليلي»،بان الأرض مجرد كوكب يدور حول الشمس ليس إلاّ وان وسط الكون - اي وسط ارتكاز الأفكار – الذي كانوا يعتقدونه ما هو إلا حبّة تدور حول نفسها وحول غيرها..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115