ولا تؤثر في صدقية خطابهم وفاعلية الأدوار التي ينهضون بها.
لنفترض جدلا أنّ دافع مشاركة الوافي أفراحه كان المجاملة لا غير وهي ممارسة تندرج في العمل السياسي وبناء العلاقات العامة وتدعيمها. ولكن لنا أن نتساءل ما تعريف المجاملة وما الدلالات التي يكتسبها هذا اللفظ عند السياسيين وغيرهم؟ تعني المجاملة عند اللغويين: حسن المعاملة: جامله «أحسن عشرتَه ومعاملته» وقد يكون مصدرها الاتصاف بجميل الأدب لا عن اقتناع أو تسليم. ولذلك عدّها أغلبهم في إطار الرياء الاجتماعي وميزوا بينها والآداب الاجتماعية المرتبطة بالمعايدة والمواساة وغيرها والتي تحكمها مبادئ وقيم. واعتبروا أنّ المجاملة هي «أن تمدح المرء بما هو له حقاً «وأن تنصحه بأدب. فهل كانت فهوم مجاملي «الوافي» منسجمة مع هذه الدلالات أم أنّها اتخذت بعدا آخر يغض الطرف عن المساوئ ولا ينأى بنفسه عن الاختلاط بمن هم في موضع الشبهات وأخبارهم شاعت لدى القاصي والداني؟
لقد صارت المجاملة جزءا من البزنس السياسي والإعلامي والاقتصادي والفني والثقافي ولذلك فإنّها تقننت وصارت انتقائية تخضع لشروط الجندر والسن والطبقة والايديولوجيا والدين وغيرها ولذلك لا نخال الغنوشي يؤدي زيارة مجاملة للبهائيين أو المثليين ... ولا نحسب أنّ النائبة عبو ستؤدي زيارة مجاملة لقائد السبسي أو الموخر... وهو أمر مفهوم باعتبار أنّ المجاملة في العرف الجديد تمارس مع أرباب المصالح والامتيازات والنفوذ والسلطة. ولا نخال الذين اقتربوا من «الوافي» لم يستفيدوا من المرئية التي وفّرها لهم لاسيما وأنّ نسب المشاهدة لبرامجه كانت مرتفعة. فالجميع يحبذ البروز في «لمن يجرؤ فقط»، خاصة قُريب الانتخابات. ولكلّ تيار عرابه ولذلك لا نستغرب انتفاع المرزوقي من «الوافي» ولا قائد السبسي من «القروي».
أمّا المبرّر الثاني الذي قدّمه الذين احتكوا بالوافي من الإعلاميين والمنشطين وأصحاب الدار «الحوار التونسي» من الذين آثروا الكلام بدل السلامة والحفاظ على المصالح فيكمن في «المساندة» و«التضامن بين أصحاب المهنة» وحفظ «الصداقة» .فلا غرابة أن يحتجّ أحدهم
بقولة: «انصر آخاك ظالما أو مظلوما» وأن يتحوّل التحايل إلى «سلفة لإتمام مصاريف الزواج» ... ولا غرو أنّ هذه الحجج الواهية تعبّر عن جهل بضوابط العمل الإعلامي وأخلاقيات العقد الذي يربط بين المنشط والمشاهدين والذي يقوم على مبادئ تضفي صدقية على العمل. فلا معنى للتجرؤ على إثارة القضايا بأسلوب فضائحي دون أن يكون المنشط مؤمنا بالرسالة التي يؤديها ومدركا أنّه بخطابه عن الإصلاح والثورة الحقيقية والفساد يضع نفسه تحت المجهر ويكون موضوع اختبار ومراقبة من المشاهدين.
وعثرنا على مبرّر ثالث لدى بعض الجامعيين والجامعيات الذين قبلوا استضافة الوافي لهم. فالقوم يبرّرون ذلك بأنّ من واجب «المثقف/ة» أن يرسل خطابا توعويا ونقديا للجماهير وليس الفضاء الإعلامي إلاّ أداة بيد المثقف/ة حتى ينهض بدوره... ويتستّر هؤلاء عن الدوافع النرجسية التي تجعلهم يتهافتون على البرامج الإعلامية دون وضع شروط أو دون إلمام بالركائز التي يقوم عليها الإعلام.فما الذي يجعل بعض المثقفين والمثقفات يمتنعون عن قبول الدعوة ويتحمّلون صفاقة الوافي عندما يقال له: لا؟
الجميع مورّط بشكل من الأشكال: الإعلاميون المحترفون والشرفاء الذين لم يقوموا بما فيه الكفاية من أجل تعديل المشهد الإعلامي «وتطهيره» من الدخلاء المتطفلين على القطاع، السياسيون والشخصيات المؤثرة.لقد عرّت قضية «الوافي» الواقع الذي يسوده النفاق
الاجتماعي والسياسي وفضحت تفشّي أدواء: النرجسية وعشق الذات والخطاب المزدوج الذي نسب في البداية للنهضة فإذا به يعمّم... قضية «الوافي» فضحت عدّة شخصيات سياسية وإعلامية وجامعية وأثبتت هشاشتهم أمام السلطة الرابعة. وبعد أن اختبرنا استبداد السياسي شهدنا خضوع المجموعة لتسلط «الإعلامي» وخذلان المجموعة الصامتة: من قال إنّ جدار الخوف قد سقط برمته؟
إنّ الفساد منظومة سميكة تحتاج إلى خطط وبناء علاقات (صداقة ، وترهيب وترغيب...)وترسانة من المبررات وتحتاج أيضا إلى التواطؤ والمساندة ونصيب من الخوف والسكوت عن الحق .أمّا الاحتجاج فإنّه مستند إلى منطق مثلما يستند التبرير إلى البلاغة.
وعسى أن تكون قضية الحال محفزّا على تقديم الاعتذارات لا الاستنجاد بالمبررات الواهية ، وعلى مراجعة المواقف واتخاذ اليقظة والحذر ... وعسى أن تكون هذه القضية درسا وعبرة لأولي الألباب.