و لكن موقف النقابة العامّة للإعلام الّذي عبرت عنه في بيان صدر عنها أمس السبت 17 جوان الجاري قلّل من إحتمال تسبب الخطأ لوحده في الإعفاء بقولها بأن ذلك حصل بـ « التفاعل مع دعوات من داخل المؤسسة و خارجها لإنقاذ المرفق العام والشروع في عملية إصلاح شاملة عجز عنها الرئيس المدير العام المقال «مع التأكيد على أن مسؤولية تأخير بث النشرة الإخبارية يتحمّلها المسؤول الأول المقال» الّذي زرع سياسة التسّيب واللاّمبالاة وفي غياب لأي برنامج إصلاحي ..».
هذا الإعفاء أثار مجدّدا الحديث عن مدى تمتع الهيئة العليا المستقلّة للإعلام السمعي البصري (الهيكا)بإبداء رأي مطابق في تسمية الرؤساء المديرين العامين للمؤسسات العمومية للإعلام السمعي البصري ، و من باب أولى و أحرى في إبداء رأي مطابق بخصوص الإقالة، و بصلاحياتها كهيئة مكّلفة بالسهر على ضمان حريّة الإتصال السمعي البصري و تعدّديته و السهر على إحترام النصوص التشريعية و الترتيبية والمراقبة و البت في النزاعات و معاقبة المخالفات .
كما أثير الحديث عن سبب عدم منح المسؤول الأول المُقال، حق الدّفاع عن نفسه بخصوص تحميله المسؤولية عمّا حصل أمام الهيئة الّتي سبق أن تعرّفت على برنامج عمله و ساندت تعيينه ،ويعود لها تقدير جسامة الخطأ إن وجد و معاقبة المخالفات، خاصّة و أن الرئيس المدير العام ليس هو المسؤول المباشر عن مرتكب الخطأ.
ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي أثير فيها النقاش عن دور الهايكا بمناسبة إقالات سابقة و تسميات في مؤسسات الإعلام البصري أو السمعي ، و برز هذه المرّة اختلاف في وجهات النظر حول كيفية تنظيم القطاع السمعي البصري ، الّتي ترى النقابة العامّة للإعلام ، ضرورة أن ينطلق الإصلاح « بإحداث قانون خاص بالقطاع يحدّد تركيبة مستقلّة لمجلس الإدارة يشرف على حوكمة و تسيير مرفق الإعلام العمومي بعيدا عن كل التجاذبات تكون مهمّته الأساسية تعيين مدير عام تنفيذي ينطلق في إجراء إصلاحات حقيقية وفق عقد أهداف و برامج يقع إمضاؤه بين مجلس الإدارة و الطرف الحكومي و تقع مناقشته داخل قبّة البرلمان ،و هو الطريق الحقيقي للمرور إلى مرفق إعلامي عمومي حقيقي».
هذا الموقف يعيد النظر في تصوّر هيئة الإتصال السمعي البصري و هو ما سيفتح المجال لتصورات أخرى قد تسحب من الهيكا أهم صلاحياتها و يدخل القطاع في بوتقة السياسة فتكبّله و تفقده حريته وإستقلاليته.
إن من مهام الإعلام العمومي إسداء خدمة عامّة ويموّله أساسا جيب المواطن، ويمكن الزيادة في مصادر تمويله ليواكب التقدم ، و يجب أن يكون محكوما بالحياد و النزاهة على أن يتمتّع بالإستقلالية الّتي تتيح له أداء هذا الدور بقطع النظر عن تغير الحكومات والسياسات . و إدخال هذا القطاع في بوتقة السياسة يعني توفير إمكانية توظيفه ، وهو ما يمكن أن نشهده أحيانا في الإعلام الخاص.
من دور الهيكا أن تضطلع بدورها طبق ما ضبطه لها الفصل 127 من الدستور كهيئة تعديلية تضمن حرية التعبير و الإعلام التعدّدي النزيه . فالنزاهة والتعدد و الحرية شروط متلازمة في الإعلام العمومي والخاص على حد سواء .
إن الّذي لا يخفى على أحد أن الإعلام العمومي التونسي ، يرزح تحت معوقات ذاتية ،بسبب تسييره بآليات إدارية صدئة ينخر الفساد جانبا هامّا منها وتتحكّم فيها أطراف تضع مصلحتها الخاصة فوق كل إعتبار و غير متقبّلة للأفكار العصرية و المتحرّرة ، و هو يشكو أيضا من معوقات خارجية ، متأتية من ضعف الإمكانيات و لا يجد الدعم من مؤسّسة الدولة و من محاولات السيطرة عليه من الأطراف السياسية ، لذلك يؤدي دوره بتوجّس و خوف ، مّما يفقده المبادرة الخلاقة و يكبّل قدراته . لذلك كان أداؤه ضعيفا و متخلّفا و مهمّشا أحيانا .
هذا الإعلام العمومي يبدو محبطا لأنه يتابع إعلاما خاصّا أكثر تحرّرا ، تتحكّم فيها سلطة المال الّتي تستبيح لنفسها كل شيء ، لا ضوابط لها غير السعي المتواصل للتحكم في الشأن العام بكل الطرق والسبل ، و تُقدم على كل التجاوزات و تتأقلم مع كل المجريات و تستحدث مختلف السبل ، لتواصل سيطرتها على المشهد الإعلامي.
لذلك من دور «الهايكا» حسب التشريع الجاري به العمل أن تؤدي دورها كما يجب و من واجب مؤسّسات الدولة أن تعي أن تدعم الإعلام العمومي و تُقلع عن هرسلته و أن تُوفّر كل الإمكانيات له، ليكون فاعلا في الدّفاع عن الصالح العام ، و من واجب الإعلاميين التسلّح بنبراس النزاهة والحياد والإستقلالية في البذل والعطاء ،لخدمة الصالح العام دون إنتهاك المصالح الخاصة الّتي لاتنال من المصلحة العامّة.