• منذ ثلاثة أسابيع أعلنت حكومة يوسف الشاهد بداية الحرب على الفساد بحملة اعتقالات شملت بعض الحيتان الكبيرة .. وفي ساعات قليلة انتاب الجميع شعور بالنخوة وبأن البلاد بصدد التقدم فعليا في مقاومة آفة نخرت الاقتصاد والسياسة والأخلاق العامة.. وتسارعت الأحداث في الأيام الأولى لهذه الحملة : اعتقالات ووضع تحت الإقامة الجبرية بمقتضى أمر حالة الطوارئ ومصادرة ممتلكات جلّ المعتقلين وإحالة ملف أحدهم على القضاء العسكري ..ثم بعد ذلك خيّم هدوء لا نعلم هل أنه منذر بعاصفة جديدة أم أنه معلن عن نهاية معركة محدودة في الزمان والمكان ..
صحيح أن ثلاثة أسابيع ليست بالفترة الطويلة وأن رئيس الحكومة مافتئ يؤكد عزمه على المواصلة في هذه الحرب إلى النهاية ولكن لا يخفى على أحد ضعف الثقة في تونس بين الحاكم والمحكوم وأنه لا يكفي أن يؤكد الحكام على أمر لكي يصدقهم الناس ..التونسيون يريدون معطيات ملموسة ..أدلة ..براهين حسية ..أما الوعود فقد سئموها وما عادوا يكترثون بها ..لقد صفق جلّ التونسيين عند بداية الحملة لا لكلام قيل بل لفعل عملي نال إعجابهم ورضاهم والخشية اليوم هي ألا تكون الحكومة قد استعدت للمعركة الثانية من هذه الحرب ..
اليوم لدينا قضية في المحكمة العسكرية وتسعة معتقلين لم توجه إليهم إلى حدّ الآن آية تهمة..
ويبدو وكأنه ثمة حالة من الانتظار المتبادل بين السلطتين التنفيذية والقضائية ..فالظاهر أن القضاء يريد ملفات صلبة قبل أن يأخذ المشعل عن الحكومة ..والسؤال المحيّر هل تملك الأجهزة الإدارية هذه الملفات الصلبة ام لا ؟ فالوضع تحت الإقامة الجبرية إجراء استثنائي لا يمكن أن يكون هو الحل وتجاوز الاعتقال الإداري لفترة معقولة قد يدفع بالتشكيك في جدية الإجراء ذاته..
• وأخيرا قرر المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي تسريح الجزء الثاني من القرض الذي منحه لتونس سنة 2016 (القيمة الإجمالية للقرض هي 2.88 مليار دولار أي ما يقارب 6.3 مليار دينار)وهذا الإجراء صاحبه مباشرة تسريح نصف مليار دولار من قبل البنك الدولي (1.2 مليار دينار ) وقرض ألماني بـ300 مليون اورو على ثلاث سنوات..
وهذه كلّها قروض لدعم موارد الميزانية والتي مازالت تحتاج إلى أخرى حتى تتمكن الدولة من الإيفاء بكل تعهداتها المالية لسنة 2017..
ولكن أن ننسى فلا ننسى أننا أمام قروض سوف تزيد في مديونيتنا وأننا إلى اليوم لم نتمكن من جلب استثمارات أجنبية هامة للبلاد رغم كل الوعود والاتفاقيات التي وقعنا عليها في مؤتمر الاستثمار تونس 2020 في نوفمبر الماضي ..
ولا ينبغي ان ننسى أنّ صرف القسط الثاني من قرض صندوق النقد في إطار اتفاق تسهيل الصندوق الممد قد جاء متأخرا بنصف سنة ..وان الصندوق – ومن ورائه كبار المانحين في العالم – ينظرون بنوع من التحفظ إلى نسق الإصلاحات الاقتصادية في تونس وإن كان ذلك لا يتجلى بالوضوح اللازم في البيانات الإعلامية لصندوق النقد ولكن كبار المسؤولين فيه يؤكدون على ضعف نسق الإصلاحات في تونس وان البلاد لم تقدم بعد بصفة جدية على ما نسميه نحن بالإصلاحات «الموجعة» أي الحدّ من كتلة الأجور في الوظيفة العمومية ومراجعة منظومة التقاعد بما يعني العمل لفترة أطول مع مردودية مالية اقل سخاء (خاصة في القطاع العام) وكذلك خوصصة المؤسسات العمومية غير الإستراتيجية وترشيد منظومة الدعم..
وكل هذه الإصلاحات هي شرط مواصلة الصندوق دعمه لبلادنا.. وهي إصلاحات صعبة ولا يوجد، إلى حدّ الآن ، توافق حولها من قبل أهم مكونات الإنتاج ..
ثم لن تصبح بلادنا جالبة بقوة للاستثمار الأجنبي ما لم نتوفق إلى قواعد مشتركة داخليا من بينها عدم المساس بنشاط المؤسسة الاقتصادية وعدم السماح بتعطيلها بواسطة الاعتصامات أو غيرها ..وما حصل في الجنوب التونسي في اعتصام الكامور على امتداد ثلاثة أشهر وكيف توصل إلى قطع نهائي لإنتاج بعض الوحدات لا يطمئن المستثمرين الأجانب وعليه علينا أن ندرك بوضوح ما نريد : تطوير الاستثمار الأجنبي لخلق الثروة ومواطن الشغل أم تهديد تدفقه بمثل هذه الرسائل التي نبعث بها إلى العالم ؟ !
• وغير بعيد عن مجالي مكافحة الفساد وإنعاش الاقتصاد تعيش بلادنا أزمة سياسية أضحت تمثل خطرا على المسار الديمقراطي برمته ..
ما يجري داخل نداء تونس – باعتباره الحزب الفائز في الانتخابات والحزب الحاكم نظريا على الأقل- يمثل تهديدا جديّا للأمن السياسي في البلاد .. لا لأنه متهم بالتخابر مع قوى أجنبية بل لأنه ينخر الثقة الشعبية في التمثيلية الحزبية ولأنه يقدم صورة عن السياسة لا يمكن إلا أن تعطي عناصر قوية لكل أعداء الديمقراطية ..
فمسلسل التوريث الفجّ واختراقات لوبيات الفساد والتعامل مع الحزب كمؤسسة خاصة أو كفريق كرة قدم نطرد منه من نشاء وننتدب له من نشاء وخاصة من الفريق «ب» لنظام بن علي ثم نبحث عن صفقة مشبوهة مع عدو الأمس حركة النهضة لحماية متبادلة من الحرب على الفساد داخليا والحرب على الإخوان اقيليما كل ذلك يمثل خطرا فعليا على جدية المسار الانتقالي والثقة الدنيا في الأحزاب السياسية عنصر جوهري فيه.. ولا يخفى على احد بأن ترهل المشهد السياسي الحزبي يزيد في المخاطر الاقتصادية على البلاد لان كل الفاعلين الاقتصاديين عندما يقيّمون نسبة المخاطرة الاقتصادية في بلاد ما فهم يقحمون فيها المعطيات الاجتماعية والسياسية أيضا ..
هنالك في بلادنا وفي كل المستويات نوايا مخلصة وإرادة لمحاربة الفساد ولإنقاذ الاقتصاد ولفرض قيم أخلاقية على الحياة الحزبية ..ولكن جلّ هذه الإرادات لا تشتغل مع بعضها البعض وأحيانا لا تثق في بعضها البعض ..بعض هذه الإرادات هشة غير صلبة وقد تبدأ في فتح معركة ولكنها لا تدري كيف تواصلها إلى نهايتها الحقيقية فتقف في منتصف الطريق تترقب «إشارة ربانية» قد تأتي وقد لا تأتي ..
الايجابي اليوم هو وضوح الطريق : محاربة الفساد في كل مواقعه وأيا كانت الجهات المستفيدة منه واستحثاث نسق النمو الاقتصادي و«أخلقة» الحياة السياسية ..وهذه المعارك الثلاث متضافرة ومتضامنة ..ولكنها ككل المعارك تحتاج إلى جيوش والى قادة والى تكتيك واستراتيجيا ..