على خلفية محاكمة المتجاهرين بالافطار: تجاوز فاحش في تأويل القانون ...

تَطلعُ على الرأي العام التونسي مرّة أخرى أحداث تُدخلُهُ في جدل و نقاش حول تصرّفات المواطن التونسي الّتي يعمل البعض جاهدين في جعلها إشكالية متّصلة بالدين و فرائضه. و لم يتوقّف هذا الأمر هذه المرّة على الجدل الإعلامي ، بل دخل القضاء على الخط إثر تتبع مواطنين

من جهة بنزرت في بداية الأسبوع المنقضي، وآخرين بصفاقس في نهايته و إصدار حكم بالإدانة بشهر سجن.

وما أثار الجدل في الأوساط الحقوقية هو نص إحالة المواطنين الّذين نسبت إليهم تهمة التجاهر عمدا بفحش طبق أحكام الفصل 226 من المجلّة الجزائية و يمكن تسليط عقوبة بالسجن على مرتكبها لمدة ستة أشهر وبخطية قدرها 200 دينار. وقد وردت هذه الجريمة في القسم الثالث من الباب الأول من المجلّة الجزائية تحت عنوان في الإعتداء على الأشخاص وفي قسمه الأوّل تحت عنوان «في الإعتداء بالفواحش»

و ورود هذه الجنحة في قسم الإعتداء على الأشخاص و في قسم الإعتداء بالفواحش يؤكّد أن قصد المشرّع إتجه إلى الأفعال ذات الصلة بالإعتداءات الجنسية ،و ليس بأفعال أخرى ، وهو ما يحول دون التوسع في التأويل الّذي يكون ضيّقا في المادّة الجزائية.

و لو أن بداية الإتهام إنطلقت من الإيقاف بإحدى الحدائق العمومية مواطنين من المتشردين بدون مأوى حسب بعض المصادر،فإن ما يثير التساؤل إن كان لأعوان الضابطة العدلية تعليمات مكتوبة أو غير مكتوبة لإيقاف المفطرين في شهررمضان، أم أنه كان بإجتهاد خاص من بعض الأعوان، أو بإيعاز من أطراف أخرى ، تسعى إلى جلب إهتمام الرأي العام في محاولة للإستفادة من بسط الموضوع على النقاش لدى العموم واستغلال مشاعر البعض . و هذا الأمر وارد بإعتبار أن بعض «المتفقهين المجاهرين بموافقهم المتطرفة» استغلوا الحادثة في محاولة لتحويلها إلى قضية رأي عام.

ومهما كان الأمر فإن ما يثير الإستغراب نص الإحالة الّذي يطبّق لأوّل مرة في هذا المجال، ولا يمكن أن يكون إلاّ قضائيا ، و الأكثر غرابة ، حكم الإدانة الّذي يجعل القضاء يتجاوز الإجتهاد والحياد المفترض فيه ، ويتعسّف في تأويل النص ليحمّله مضمونا جديدا قابلا للاتساع (إذا تمّ إقراره )، على تصرفات شخصية أخرى قد تطال أي حرية من الحريات الخاصّة و الفردية الّتي يضمنها الدستور.

فإذا كان الفحش في مجرّد الإفطار الّذي قد يختاره الفرد لأي سبب من الأسباب أو يجبر عليه لمرض أو عجز ، فإن تتبع المواطنين بسبب ذلك لا يستقيم ، فضلا على أنه أمر مرتبط بعقيدة الشخص و قناعاته ، و لا تصحّ مراقبته أو التثبت في مدى صحة التجاهر به لإثبات ركن العمد ، خاصّة إذا كان في مكان منزوي أو تحت شجرة أو مكان مغلق...إلخ

و إذا سايرنا هذا التوجّه فإن ذلك يعني أنّنا بدأنا نشرّع لما قامت به جماعة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» و الّتي تنصّب نفسها مكان مؤسسات الدولة و تضع نفسها وصية على تطبيق الشريعة الّتي تطوّعها حسب تصوّرها، والّتي تسعى إلى تطبيقها أسوة بما يحصل في بعض الدول.

و هذا يعني أنّنا قد نتحوّل إلى إعتبار عدم القيام بأي فريضة ، من قبيل التجاهر بالفحش، بل أن مجرّد قول الشخص بأنه لا يؤدي فريضة ما ، هو في حد ذاته تجاهر بالفحش يبيح التتبع والعقاب .و ما حصل في بنزرت حوّل الموضوع إلى «طبق» للنقاش والإبتزاز الدّيني والإجتماعي والسياسي والإفتاء ،إذ أصبحت بعض المنابر الإذاعية ، تفتح الحوار حول سباحة المرأة في رمضان و حول ما ترتديه عند العوم وما لذلك من تأثير على الصائم (؟؟).

لقد خطت المحكمة الّتي أدانت مواطنين لكونهم مفطرين خطوة خطيرة في ضرب الحريات الأساسية و إتجهت إلى عقاب أفراد بدون نص قانوني ،و خالفت المبدأ القائل بأنه لا جريمة ولا عقاب إلاّ بنص، وهو نص لا يمكن أن يوجد في ظل أحكام الدستور المعمول بها . فالدولة هي راعية للدين وكافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية و ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي . كما هي ملزمة بنشر قيم الإعتدال والتسامح و بحماية المقدّسات و منع النيل منها ، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية و العنف و بالتصدّي لها وكل ذلك طبق مقتضيات الفصل 6 من الدستور .

إن القاضي لا يحكم طبق معتقداته و حسب قناعاته الخاصّة و هو ملزم بالحياد و النزاهة و لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون و هو ضامن لإقامة العدل و علوية الدستور و حماية الحقوق والحريات، و هذا أيضا طبق الدستور.
إن البحث عن التبريرات خطر على قيم التسامح و المبادئ الدستورية، و كل تبرير هو من قبيل النفاق والتملق لتغطية المواقف المبطنة للترهيب و التخويف بغاية تغيير نمط عيش التونسيين وخصوصياتهم ، و بث التفرقة بين المواطنين على أساس ممارستهم لفرائضهم و شعائرهم، الّتي تبقى حريات ذاتية لا يجوز التسامح في نفيها أو الحد منها، خاصّة إذا سلمنا بأن أصحاب العقيدة الثابتة لا تزحزحهم المظاهر و الإيمان ملء قلوبهم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115