صادت شبكة محبوكة بخيوط «قانون الطوارئ» عددا من النشيطين في مجال الأعمال المختلفة و الّذين عرفوا لدى العامّة و الخاصة بتنفّذهم في عالم الأعمال المدرّة للأرباح السهلة والسريعة بكل الطرق و الوسائل ، و الّذين لم تطلهم يد العدالة بالرغم من أن بعضهم كان يتحدّى الجميع بلهجة استفزايزية بنعت الماسكين بالسلطة بأبشع النعوت والصفات .
لقد قيل عن هؤلاء أنهم حيتان الفساد الكبيرة، والمتدخلون الأقوياء في المجال السياسي ممّا جعل الكثيرين من النشطاء السياسيين وبعض الإعلاميين و«الحقوقيين» يتقربون منهم ويخطبون ودّهم و يعوّلون عليهم لحيازة مواقع مختلفة في الأحزاب والسلطة وفي بقية مراكز التأثير والنفوذ.
قال الشاهد في أول خطاب له أن هؤلاء و كل الضالعين في الفساد مكانهم السجن، ولكن تحدّاه شفيق جراية في منبر إعلامي ليقول على الملأ أن الشاهد لا يقدر على إيقاف «معزة»، ولكن لم يرد الشاهد بشيء ممّا أوحى للرأي العام بأن الحكومة عاجزة عن فعل أي شيء للذي يتحدّاها و هو ما قد يكون شجع على تحدّي سلطة الدولة عموما.
ولكن ظهر أن السلطة في أعلى هرمها لم تكن مرتاحة لما يحدث خاصّة و أنها كانت على بيّنة من حجم الفساد الذي ما فتئ يكبر و يتّسع، و هي على دراية بموقف الرأي العام من هذه الظاهرة الخطيرة الّتي زادها التحدي العلني خوفا من المستقبل، لذلك تمّ ترتيب كل شيء في دائرة ضيّقة جدّا ، وعندما إكتمل الإعداد تمّ التنفيذ بسرعة فاجأت الجميع حتى من كان في السلطة أو من المقربين لدوائر الحكم ، إذ بلغ لبعضهم الخبر وهم في الخارج، مثل حافظ قائد السبسي والسيد سفيان طوبال المتواجدين بالصين.
لا شك أنها ليلة مرعبة عاشها كل من تلطّخت يده بالفساد ،و لعّل بعضهم حزم أمره على الهروب بجلده، ولكن تحجير السفر الّذي ضرب على عدد هام منهم ، قد زاد مخاوفهم أمام تواتر القول بأن الحملة ستتواصل لوضع عدد آخر تحت الإقامة الجبرية.
من الناحية القانونية هذه الإقامة الجبرية نص عليها الأمر عدد 50 - 78 المؤرخ في 26 جانفي 1978 وهي من التدابير الّتي تخوّل لوزير الدّاخلية وضع أي شخص يعتبر نشاطه خطيرا على الأمن والنظام العامين في منطقة ترابية أو ببلدة معينة ، على أن تضمن السلط الإدارية اتخاذ كل الإجراءات لضمان معيشة هؤلاء الأشخاص وعائلاتهم.
هذا التدبير المتّخذ يمكن أن تصاحبه تدابير أخرى تقتضيها الأبحاث مثل تفتيش المحلات باللّيل والنهار و كذلك تنظيم إقامة الأشخاص.ولكن تبقى هذه التدابير اإستثنائية ووقتية يمكن أن تنجرّ عنها تتبعات عدلية ، ويقع تتبع مخلفات الأمر 50 - 78 طبق إجراءات الجنيات والجنح المتلبّس بها المنصوص عليها بمجلّة الإجراءات الجزائية .لذلك قد تتواصل لما يكفي من الوقت لإجراء الأبحاث فيما يوصف بالنشاط الخطير على الأمن و النظام العامين.
أمّا من الناحية السياسية ، فقد شكّل هذا الحدث أهمية كبيرة في مختلف الأوساط، و فُسّر على أنه استجابة لطلب شعبي ،و تنفيذا لما وعد به الشاهد، إذا تواصل في نفس الإتجاه و تعامل مع كل الملفات على قدم المساواة، و حوّل مقاومة الفساد من شعارات في ندوات وحلقات نقاش وتظاهرات ومنابر، إلى إرادة جادة في مكافحته وتتبع الضّالعين فيه بسرعة و حزم.
وتفاعل الرأي العام مع الخطوة الجريئة للشاهد، لا تخفي التأكيد على احترام القانون بأن يضطلع القضاء ببقية المهام الموكولة في أطوار التتبع في إطار محاكمات عادلة تُكفل فيها جميع ضمانات الدّفاع ، لعلّه لذلك السبب حرص الشاهد على زيار القطب القضائي المالي يوم أمس للاطلاع على ظروف العمل و كيفية سيره.
هذا التفاعل ألهى المتابعين عن موضوع المصالحة و أعمال هيئة الحقيقة والكرامة ، وترك العديد من السياسيين في التسلّل بعد أن وضعوا مكافحة الفساد عنصرا أساسيا في معارضتهم لحكومة الشاهد ، وأعطى للشاهد صكّا جيدا سيجعله غير قادر على التراجع كي لا يخسر كل شيء وبالتالي سيكون مدعوا للسير إلى النهاية ليحقّق كسبا شعبيا و سياسيا هامّا و ليضع حدّا لتشكيك خصومه فيه. لذلك ستكون المعركة صعبة لأن بؤر الفساد متعدّدة ونافذة و متمكّنة و هو ما سيجعل أعداء الشاهد أمامه وخصومه وراءه..