لقد حصل المحظور وسقطت روح بشرية وأخشى ما نخشاه أن تخرج الأمور عن السيطرة وأن ندخل في دوامة مفرغة قد تؤدي إلى كوارث بشرية أخطر بكثير ممّا حصل إلى حدّ الآن رغم خطورته الكبيرة ..
نحن بصدد مشاهدة انزلاق خطير : من احتجاج سلمي يطالب بالتشغيل والتنمية إلى تأليب على قوات الأمن والجيش والبحث عن الصدام معها وخلق حالة من الاحتقان والعنف تدفع بالحركة الاحتجاجية لشباب تطاوين إلى متاهة تُعرف مداخلها ولا يعلم أحد كيفية الخروج منها..
نحن أمام وضعية معقدة للغاية وقابلة للانفجار في كل لحظة ..وضعية لا تتناسب مع الأحكام القطعية والتقسيمات السطحية..
فكما تهمنا سلامة كل بناتنا وأبنائنا في تطاوين تهمنا أيضا سلامة كل أفراد قواتنا الأمنية والعسكرية وكما يعنينا مستقبل كل عاطل عن العمل وكل مواطن تونسي ولا سيما ذلك الذي انقطعت به السبل ويعيش حالات من التهميش والفقر لا يمكننا البتة القبول بها.. ولكن في نفس الوقت يعنينا مستقبل البلاد ووحدتها وتضامن كل أجيالها وجهاتها وفئاتها ..ولا يمكن أن نحدث تفاضلا بين هذا وذاك ..فلا معنى لوطن لا يحترم فيه المواطن كما لا يحق لأي كان أن يعرض قواعد عيشنا المشترك لأزمة قد تأتي على أسسها..
يمكن أن ننقد السياسات العمومية للحكومة الحالية كما نريد..ولكن لا مناص من الاعتراف بأنها قد استجابت في ولاية تطاوين لمطالب هامّة جدّا قد تتجاوز حتى قدرتها الفعلية على إنفاذها بصفة دائمة وهذا ما يفسر تصويت الغالبية الساحقة من معتصمي الكامور لفائدتها ولفك نهائي للاعتصام. ماذا حصل بعد ذلك ؟
ما حصل هو تذبذب الأغلبية أمام إصرار الأقلية الناشطة الرافضة للاتفاق والاعتقاد بأنّه بالإمكان تحصيل أفضل ممّا كان ..وأنه لابدّ من التصعيد وقطع الإنتاج نهائيا لأن السلطات السياسية والبترولية لا تفهم إلاّ لغة القوة وعندها سوف تخضع لكل المطالب القصووية وبصفة فورية ..
ولكن هذه الأسباب المباشرة لا تفسر كل شيء ولا تفسر بالأساس لماذا وصلنا إلى هذه الوضعية في تطاوين ..
لابدّ أن نضع أصابعنا على الداء الفعلي إن نحن أردنا مخرجا مرضيا لنا جميعا من هذه الأزمة..
لقد تطور في تونس مخيال إيديولوجي قائم على روافد شتى وهو مزيج من بعض النزعات الاسلاموية والعروبية واليسارية يقوم على فكرة أساسية : دولة الاستقلال ، قبل الثورة وبعدها ، إن هي إلاّ مواصلة لدولة الاستعمار القائمة على نهب خيرات البلاد كلّها الباطنية والسطحية لفائدة مجموعات فاسدة مرتبطة بالدوائر الاستعمارية العالمية..
فتونس ليست بلدا فقيرا بل هي بلد منهوب ويكفي أن نضع حدّا لهذا النهب حتى يعيش الجميع في بحبوحة من العيش. انه المخيال الريعي المتوهم ..
وهذا المخيال موجود بقوة في النواتات الصلبة لبعض حركات الاحتجاج الاجتماعي وموجود أيضا بنسب متفاوتة واقل راديكالية عند نسيج من الجمعيات والأحزاب ..
لاشك لدينا بأن الذين يتبنون الشكل الأكثر راديكالية لهذا المخيال هم أقلية في كل هذه الأوساط التي أشرنا إليها آنفا.. ولكنها أقلية ذات جاذبية لا يستهان بها وهي تعطي معنى طوباويا ورومنسيا لكل تحرك اجتماعي احتجاجي ..
والإشكال الكبير في بلادنا أن المخيال الجماعي المقابل لهذا المخيال الثورجي الرومنسي يقوم على فكرة مفادها أن الثورة قد جاءتنا بالحرية ولاشك ولكن أوضاعنا الأمنية والاقتصادية والاجتماعية كانت قبلها أفضل بكثير .. وأنّ الحلّ الوحيد مع كل هؤلاء المحتجين (من المضربين إلى المعتصمين) هو تطبيق القانون بكل صرامة .. أي في المحصلة قمع كل مظاهر الاحتجاج وان لزم الأمر العودة إلى القبضة الحديدية ..ويقوم هذا المخيال أيضا على فكرة أنّه لا وجود لعاطلين عن العمل في تونس بل فقط لكسالى يفضلون القيام ببعض العمليات المربحة في السوق السوداء على شغل قار ..بل يريدون وظيفا في المؤسسات العمومية أو النفطية ذات التأجير المرتفع دون أن يوفوا بأي التزام مهني..وان جل هذه الاعتصامات أن هي إلا الواجهات العلنية لجماعات الإرهاب والتهريب ليس إلاّ..
إن صراع هذين المخيالين في أشكالهما القصووية هو الذي يهدد وحدة البلاد وتضامن جهاتها وفئاتها ويضعف كثيرا من فاعليـة السياسـات العمومية ..
لا نعتقد أن تونس تملك طريقا آخر للنجاة سوى قول الحقيقة لكل بناتنا وأبنائنا وتفنيد كل هذه الصور النمطية المدمرة وتحمل كل الأطراف الاجتماعية والسياسية والجمعياتية مسؤولياتها كاملة .. دون ملائكية مفرطة ودون التغافل عن مجموعات الارهاب والجريمة المنظمة التي تتربص بالبلاد الدوائر.
ينبغي أن نقول لأنفسنا جميعا بأننا قد قمنا بثورة رغم تعثرات الطريق وأنّ وهم ثورة ثانية هو وهم مدم وممهد بطريقة من الطرق لعودة الاستبداد..
ولكن من جوهر هذه الثورة هو التقاسم المادي والرمزي للثروة وللسلطة .. وأن الثروة لا تخلق إلا بالعمل وأنه لا بديل عن اقتصاد السوق. وتوهم التملك الجماعي لوسائل الإنتاج هو خطر على الديمقراطية ولكن اقتصاد السوق يستوجب ، فيما يستوجب بأن تقوم الدولة بدور استراتيجي في التوجيه والتعديل وأنّه لا معنى له دون حوكمة رشيدة ودحر آفة الفساد وأنه يتسع بشكل كبير لكل أشكال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني .. وأن العمل في الوظيفة العمومة ليس حقا لأحد..ولكن حيوية الاقتصاد ومرونته وانفتاحه على الأشكال والأنماط المبتكرة والسياسات العمومية الملائمة في التربية والتكوين وخلق مواطن التميز في كل الجهات الداخلية والساحلية هي وحدها التي تنتج شروط الرفاه الاجتماعي لأكبر عدد ممكن من التونسيات والتونسيين ...
فلا وجود لتيار فكري سياسي يملك لوحده الحلول كلّها ..فتونس بحاجة إلى اجتهاد جريء يأخذ من الليبرالية نجاعتها ومركزية المؤسسة الخاصة وعدم تغول الدولة والحوكمة الرشيدة، ويأخذ من التيارات الاجتماعية فكرة المصلحة العامة والخدمات العمومية والتمييز الايجابي الفعلي والاقتصاد الاجتماعي والتضامني ..
تونس بحاجة إلى عقد أخلاقي واجتماعي تتوحد حوله جلّ القوى الفاعلة في البلاد لا لهدم التعدد بل لتوفير ظروف ديمومته..
الاتحاد العام التونسي للشغل بصدد القيام بدور كبير في هذا الاتجاه ينبغي دعمه وتثمينه وإثراؤه بالأفكار والمقترحات ..وكم نتمنى بأن يضع من جديد يده في يد منظمة الاعراف وفي يد كل القوى الاجتماعية والسياسية لكي نضع سوية خارطة طريق اجتماعية واقتصادية لإنقاذ البلاد من كل هذه المخاطر التي تحدق بها ...