وبالفعل بدأت عدّة فضائيات في عرض ومضات إشهارية لأهمّ البرامج الرمضانية الخاصة بها وكما هو معهود تأتي المسلسلات والبرامج الدينية وبرامج الطبخ في الصدارة ملبية بذلك «طلبات» الجماهير واحتياجاتها في هذا الشهر «الفضيل». وبالرغم من التحولات التي شهدتها المنطقة فإنّ «الثابت» جثم على «المتحول» فبدت برامج الإفتاء التفاعلية في المركز وكأن المسلم/ة يستيقظ من غفلته في هذا الشهر فيراجع دروسه في ما يتعلق بأحكام الصوم والصلاة و... وبرزت برامج شرح العقيدة في المرتبة الثانية وهي برامج لا يفقهها إلاّ من بذل جهدا في سبيل المعرفة وتأتي البرامج الدينية الحوارية بين العلماء أو الدعاة في المرتبة الثالثة تليها الأدعية والأناشيد والأفلام التاريخية والمسلسلات الدينية التي تضطلع بدور لا يستهان به في تأجيج العواطف وتشكيل المتخّيل من خلال التركيز على الرموز الدينية.
لا يملك المشاهد/ة التونسي أمام وفرة الإنتاج وأساليب الإغراء وكاريزما بعض الدعاة إلاّ أن ييمّم وجهه نحو الفضائيات العربية معرضا بذلك عن البرامج الدينية التونسية التي حاولت المحاكاة فما أصابت ، وهيمنت على المتدخلين فيها «اللغة الخشبية» ولم يتجاوز التجديد الشكلاني فيها التغيير في مستوى الديكور فعثرنا على مواعظ تلقى في الفضاء الخارجي تحت الوديان والأشجار وفي صحن المسجد الأكبر ... بينما بقيت المواضيع مجترة وطريقة الإجابة متكلسة والعرض الركحي باهت... وفات أصحاب البرامج الدينية أنّ «السوق الدينية» تخضع لأحكام العرض والطلب ولها شروط وضوابط وأحكام أطنب المتخصصون في علم الاجتماع الديني في تحليلها. وهذا يعني استحالة نجاح البرامج الدينية المحلية في فرض نفسها في هذه السوق وفق قاعدة التنافس. وهو أمر راجع في تقديرنا إلى عدّة أسباب منها:
• غياب الشجاعة الفكرية لدى المشرفين على البرامج الدينية التي تجعلهم يفارقون المألوف والمتعارف عليه لينفتحوا على رؤية مختلفة لإدارة الشأن الديني في القرن21 تقوم على عرض برامج تجيب عن أسئلة الراهن وفق منطق الاجتهاد الفعلي القادر على سد الفجوة بين ما يعيشه المسلم/ة من أوضاع معقدة في حياته اليومية ومقتضيات التدين المقننة في كتب الفقه.
• تكلس وعي المشاركين في هذه البرامج الذين يتوهمون أنّهم حراس الشريعة ويتكلمون نيابة عن الله ويملكون الحقيقة ويحتكرون الكلام في المعرفة الدينية والحال أنّ هؤلاء ليسوا إلاّ أصحاب خطاب محدد ينتج حول الدين يتجاور بالضرورة مع خطابات أخرى لها الحق في البروز وطرح الإشكاليات الجوهرية التي نعيشها.
• هيمنة الرغبة في فرض سلطة القول الأحادي والممارسات القسرية وفرض الوصاية على الآخرين من خلال التذرع بفهم مقاصد الله ورسوله وتسييج الفهم من خلال الإصرار على أنّنا جميعا مالكيون بالضرورة وهكذا تلغى فئات أخرى لها طرح مغاير كالشيعة والإباضية و...
• تجنّب الخوض في القضايا الأساسية المطروحة على المجتمع بعد إقرار المادة الـ6 من الدستور ونعني بذلك وضع الحريات الفردية فما قول العلماء في من يصوّر المفطرين في شهر رمضان رغبة في التشهير بهم وإيذائهم ووصمهم؟ وما رأي العلماء في من يحجر على الآخرين الاستماع إلى الموسيقى بأنّها تحول دون استماعه إلى الآذان؟ وما رأي العلماء في الأئمة الذين يبثون خطاب الكراهية بدعوى التطهير، ويحثون الرجال على تأديب النساء؟....
في انتظار وجود فاعلين جدد في الشأن الديني من الرجال والنساء المحجبات وغير المحجبات القادرين على تغيير البوصلة بإثبات أنّ قواعد العيش معا في دولة مدنية تتلاءم مع قيم الدين مما يجعل الروحانية ملكا مشاعا بين المسلم السني والشيعي... والمسلم السلوكي والمسلم بالوراثة واللاديني والمسيحي والبهائي والبوذي...في انتظار فتح المجال أمام هذه النوعية من الفاعلين في الشأن نقول: استهلكوا الثقافة الدينية المحلية أو العربية لا فرق... فالهمّ واحد ... و«رمضانكم كريم».