قراءة في الخطاب الرئاسي من زاوية أخرى

لن ننطلق في تحليلنا لخطاب رئيس الجمهورية من الآية القرآنية التي صدّر بها خطابه معتمدا في ذلك على بنية الخطاب السياسي التقليدي الضارب في عمق التاريخ الإسلامي، ولن نشير إلى زلّة اللسان التي تنسف مضمون كلّ الخطاب إن اعتبرنا

أنّ «الحق صار زهوقا» فجلّ من لا يسهو أو يخطئ... ولن نتعمّق في المضمون لأنّه قائم على الاجترار ولا يضيف إلاّ النزر... وصدق قائد السبسي حين اعترف: «أنا ما عندي ما نقول»... وسنهتم في المقابل باختيار الزمان والمكان وطريقة الأداء وأساليب الإقناع وغيرها من العناصر المكوّنة للخطاب...

لقد اختار رئيس الجمهورية (أو الفريق) أن يلقي خطابه في هذا الظرف التاريخي العصيب الذي تمرّ به البلاد، وهو وضع وصفه بأنّه يؤدّي بنا إلى «عنق الزجاجة». وتُسْتَخْدَمُ هذه الكِنَايَةً في اللغة العربية للتعبير َعنْ حُدُوثِ أَزْمَةٍ وَالوُصول إلى مَنْفَذٍ ضَيِّقٍ ، ومعنى هذا أنّ الرئيس يقرّ بأنّ الوضع ما عاد يحتمل مزيدا من الأزمات وأنّ التدخل صار ضروريا «لتسكين المواجع» وامتصاص حالة الاحتقان ولذلك كان اختيار مكان إلقاء الخطاب مهمّا إذ غادر «السبسي» قصر قرطاج «رمز السلطة» ليكون خطيبا في قصر المؤتمرات الذي ضمّ تظاهرات فنية وفكرية وسياسية كثيرة تعتمد كلّها على مشهدية الركح... وهو مكان يوحي بالاتساع ويضمن وجود جمهور نوعي يتفاعل مع الرئيس بين الحين والآخر عبر التصفيق والابتسامة والضحك... فيشعره بنجاعة الخطاب ومقدار مقبوليته.
لم يشأ قائد السبسي تقديم خطابه في وضع «الجالس» من وراء مكتبه والمتوجه إلى الشعب من خلال فعل القراءة وعبر شاشة الكاميرا بل أراد أن يرتجل وأن يكون واقفا ومراقبا للآخرين، ومسيطرا على المشهد، ومتحديّا لمن عيّره بكبر السنّ، ومن ثمّة انسجمت وضعية الوقوف والموقع المرتفع مع مقتضيات السلطة كتكرار عبارات من قبيل «أنا نعرف» ، «أنا نقول»، «أنا نبّهكم» ، «أنا قبلت»، «أنا اللي نعرف» ، «أنا عملتها»، «أنا هذا ما نقبلوشي»....

ولئن كان قائد السبسي يحاول إقناع الجمهور بخطاب تتداخل فيه الأخبار العامة والخاصة (من الماضي البعيد والماضي القريب، والحاضر) بالآيات القرآنية، وبارتفاع الإيقاع في مواقع، وخفوت نبرات الصوت في مواقع أخرى فإنّه سعى إلى التحكم في الأداء فاستعمل حركات الجسد التي تضمن له التفاعل مع الجمهور. فتوجه بالخطاب إلى أصحاب اليمين وأصحاب اليسار، ورفع اليد وخفضها ، وقطّب الجبين وعبس ثمّ اهتّز وانتفض ومال وتأخر بجسده إلى الوراء ... وهي حركات وأوضاع تمنح الخطاب قوّة وتشير إلى حركية معينة تكسر رتابة المتلفظ الذي يستحضر المألوف إذ لا تغيب عناصر عن خطب قائد السبسي: «الآيات القرآنية، أخبار بورقيبة، دغدغة مشاعر النساء، إبراز الخبرة والحنكة، والبحث عن الملحة، ازدواجية اللغة...». وهذا يعني أنّ الخطاب لم يتجدّد إن كان على مستوى البنية أو المضمون ولم يتلاءم مع «تونس الجديدة المتجددة» بل كان مفتقرا إلى عناصر الجدّة والإثارة والتشويق والطرافة فلم يُتقبّل بالترحاب ولم يوفّر مادة يمكن الحفر فيها للوصول إلى تأويلات مهمّة.

لقد أتي هذا الخطاب الذي توجه به قائد السبسي إلى «الشعب» استجابة لدعوات كثيرة طالبت بتدخل الرئيس وتوضيح موقفه ولكن هل أفحم الخطاب الجماهير؟
لا نخال أنّ الرئيس جانب الصواب حين أعاد على مسامع الجميع ما هو معلوم بالضرورة ، حتى وإن كان ذلك من باب التذكير، ولا نحسب أنّه كان خطابا بليغا فالرجل أفرط في الكلام، وتجنّب الخوض في الموضوع الرئيسي: كيف يمكن لنا بناء الديمقراطية في ظلّ حكومة اشتد فيها عود الفساد والتهريب وصار الإفلات من المحاسبة قاعدة وباتت فيها المحاصصة لبّ التعامل بين الأخوة الأعداء.؟

وما دمنا نرى «الرؤوس التي حان أوان قطافها» تتأمل فينا بكلّ صفاقة بعد أن احتمت ببيت أبي سفيان فإنّ أزمة الثقة مستمرة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115