من منّا ينكر وجود تفاوت جهوي في البلاد جذوره ضاربة في الزمن وعمقه تحديث البلاد الذي أقدمت عليه دولة الاستقلال ؟
من منّا ينكر أن حظوظ أبنائنا وبناتنا غير متساوية بالنظر إلى البعدين الجهوي والاجتماعي ؟ !
من منّا ينكر أن كل السياسات العمومية من الاستقلال إلى اليوم رغم الجهد الواضح المبذول لم تتمكن من الحد من هذا التفاوت ولم تسع بصفة جدية ومتواصلة إلى خلق جاذبية عليا لهذه المناطق الداخلية ؟
نحن أمام معطيات تثبتها الأرقام والتقارير الحكومية ذاتها على امتداد كل هذه العقود ..
ولكن ما أصبح يتداول اليوم عند جلّ المتدخلين في الشأن العام حكاما ومعارضين ونخبا جمعياتية وحقوقية ونقابية وإعلامية يساهم في اغتيال جماعي للحقيقة ..اغتيال سندفع جميعا ثمنه وخاصة الشباب المحتجّ في المناطق الداخلية ..
نسمع اليوم كلاما من صنف أن الأرض التونسية ثرية وأنّه لولا الفساد و«منوال التنمية» لكان كل التونسيين في بحبوحة من العيش.. ونسمع كذلك من الحكم و المعارضة على حدّ سواء ، بأن الدولة المركز ، أي دولة الاستقلال، هي دولة ناهبة لخيرات المناطق الداخلية وانه لو أعيد لهذه المناطق %1 من مجموع خيراتها لكان الوضع أفضل بكثير مما هو عليه اليوم..
نسمع حديثا عن «شرعية» الاحتجاجات حتى عندما تكون مطالبها مخرّبة لاقتصاد البلاد تحت وهم أن المحتج لا يخطئ وانه على النخب الانصياع لمطالبه بدل مناقشتها وترشيدها وتوضيح زيف بعضها..
ونسمع من هذا الصنف الكثير دون أن نتجرأ جماعيا لنقول: لا لاغتيال الحقيقة.. لا لبيع الأوهام.. لا لثقافة الريع والغنيمة المناطقية التي هي بصدد التغلغل اليوم ..لا لثقافة الاحتجاج الدائم بدل السعي إلى العمل الدؤوب آيا كانت قسوة الظروف الشخصية والعامة..
يمكننا أن نتهم الدولة التونسية زمن بورقيبة وبن علي بأشياء كثيرة.. بدءا بحكم الفرد وعبادة الشخصية عند الأول وصولا إلى التحكم المافيوزي لعائلات الحكم عند الثاني ولكن ادعاء أن الدولة كانت ناهبة هو لغو تفنده كل المعطيات والأرقام وحياة الناس العملية ..
يكفي أن نعلم أن الدولة التونسية كانت تخصص خلال العقود الأربعة الأولى من الاستقلال حوالي ربع ميزانيتها للتربية والتعليم وأن أكثر من نصف ميزانية الدولة كان – ومازال – موجها لما يسمى بالإنفاق الاجتماعي (التربية والصحة والتضامن الاجتماعي ودعم المواد الأساسية ..) وأن فخر دولة الاستقلال أنها بنت مدرسة في كل قرية إلى أن حققت التمدرس شبه الكلي لبناتنا وأبنائنا في سن السادسة ونسبة تمدرس مرتفعة بالنسبة لمن هم دون سن 14 سنة ..
ترى هل هذا هو سلوك دولة ناهبة كما كان الحال في بعض الدول الإفريقية في سبعينات القرن الماضي ؟
صحيح أن الاستثمار العمومي للدولة التونسية قد تركز أكثر في المناطق الساحلية من بنزرت إلى مدنين وان اقل منطقة حظا منه خلال العشريات الأولى كانت بالأساس ولايات الوسط الغربي (القيروان وسيدي بوزيد والقصرين ) ولكن حتى بالنسبة لأهالي هذه الولايات فمعدل الاستثمار العمومي بالنسبة للفرد الواحد على امتداد كامل فترة حكم بورقيبة كان حوالي %50 من المعدل الوطني في
حين تجاوزت ولايات الجنوب الداخلية (قفصة وتوزر وقبلي وتطاوين) المعدل الوطني وكادت تمثل الضعف عند ولايتي الجنوب الساحلية (قابس وتطاوين)
ما نقوله لا ينفي تمركز النشاط الاقتصادي - بفعل حيوية القطاع الخاص كذلك – في الولايات الساحلية الأساسية وبالتحديد تونس وأريانة وبن عروس من جهة وسوسة والمنستير ونابل وصفاقس ممن جهة أخرى رغم وجود مناطق الفقر والتهميش والبطالة في قلب هذه الأقطاب الاقتصادية ..
المعطيات التي سقناها إجماليا معلومة عند الجميع – أو هكذا من المفترض– ولكن يفضل بعضهم اختلاق حقيقة أخرى «بديلة» تقوم على فكرة «الدولة الناهبة» والتي نظّر لها بعضهم تحت مسمى «الاستعمار الداخلي» والإشكال أن هذه الحقيقة «البديلة» والتي يخشى الجميع تبيان زيفها وتهافتها تؤسس بصفة لا واعية لمطلبية ريعية مناطقية من صنف %20 من عائدات البترول أو الفسفاط أو الماء أو غيره.. والحال أن مجمل التحويلات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجهات من ميزانية الدولة قد تتجاوز في بعض الحالات كل عائداتها من الثروات الطبيعية كما كان ذلك حال ولاية قفصة على امتداد حوالي العقد قبل الثورة وهذه السنين الست بعدها..
نقول ونشدد حتى تكون الصورة واضحة غير مجتزئة بان التفاوت الجهوي تفاقم والمسؤول الأساسي عنه هو النشاط الاقتصادي الخاص كما أن الدولة لم تتمكن إلى الآن من خلق جاذبية فارقة لهذه المناطق الداخلية .. كما أن الفساد - بمختلف أصنافه – يفسر جزءا من هذه الفوارق ولكن القول بالدولة الناهبة هو إنكار لمعطيات الاقتصاد والتاريخ كما أن الاعتقاد بان الفساد هو السبب الرئيسي في تهميش هذه الجهات الداخلية هو في أفضل حالاته جهل بواقع تونس وتاريخها الاقتصادي والاجتماعي لأننا نتحدث عن مناطق كان يطغى عليها إما النشاط الفلاحي البسيط كما في الشمال الغربي أو أن المناخ كان يفرض على جلّ سكانها حياة الكفاف كما هو الحال ، تاريخيا ، في جلّ مناطق الصحراء التونسية بينما اختصت المدن الساحلية الكبرى من بنزرت إلى جربة وجرجيس بنشاط تجاري وحرفي وفلاحي متنوع..وهذه الفوراق ليست وليدة دولة الاستقلال ولا المرحلة الاستعمارية بل تلك هي تونس على امتداد قرون طويلة ..
والمطلوب اليوم هو أن نغيّر معطيات التاريخ والجغرافيا وأن نجعل من كل هذه المناطق مناطق جاذبة للاستثمار وللنشاط الاقتصادي وللتميّز فيه..والمطلوب من السياسات العمومية أن تحدّ من هذا التفاوت خاصة بخلق ظروف تساوي الفرص بين كل بناتها وأبنائها وذلك لن يكون إلا بتكوين مدرسي ومهني يضمن الجودة العالية والتفوق للجزء الأكبر من تلاميذنا لا لنخبة قليلة العدد يهاجر جلّها للخارج فيما بعد ..
لا يمكن مقاومة التفاوت الجهوي دون إرساء مدرسة التفوق والامتياز في كل شبر من تراب الجمهورية .. وهذه القضية الأساسية لا يهتم بها احد اليوم من محترفي «الحقيقة البديلة» ولن نقاوم التفاوت الجهوي بتأميم النشاط الاقتصادي أو بالتعويل فقط على جهد الدولة أو بتشغيل المحتجين في الشركات التي يريدون..
التفاوت الجهوي لن يقاوم إلا بنشاط اقتصادي يعتمد على مناطق التميز والجاذبية العليا كإرساء مدن جامعية فعلية أو مدن للصناعات الثقافية أو للخدمات وللسياحة الراقية ..
والعاطلون لن يجدوا شغلا بمجرد الاحتجاج بل بالعمل على تحسين تشغيليتهم بداية لان جلّهم اليوم ليسوا جاهزين لسوق الشغل وحتى إن دخلوها فهم لن يعمروا فيها لافتقادهم للمهارات الضرورية إما بحكم سوء التكوين الأصلي أو بحكم طول فترة البطالة.
ولن تنهض هذه المناطق ولا البلاد بأسرها بجعل وضعية الأجير هي الحلم الأقصى لكل عاطل عن العمل ..فخلق الثروة يفترض المجازفة الشخصية والسعي إليها حيثما أمكن ذلك والصبر عليها..
نخب كثيرة في البلاد من حيث تعتقد أنها تحسن صنعا هي تشجع الآن على ثقافة الريع والإتكال على الدولة والكسل ولا تتحدث مطلقا عن العمل كقيمة القيم ولا تدفع هذا الشباب الفاقد للأمل اليوم إلى القطع مع عقلية الاحتجاج الدائم والإسهام في خلق المشاريع مهما كانت صغيرة ..
أن تصمت النخب على رفض الشباب المحتج في تطاوين لحوالي ألفي موطن شغل (ربعها على الأقل وهمي للأسف) وان تصمت أمام المطالبة بتشغيل ألفين منهم في المؤسسات البترولية دون أن تقول بأن هذا إجرام في حق العاطلين عن العمل في تطاوين وفي حق البلاد بأسرها فذلك هو الخذلان بعينه للقضية التي يقولون إنهم يدافعون عنها ..
«وحده الواقع ثوري» كما قال لينين ووحدها الحقيقة هي التي تتأسس عليها الصروح الشامخة أما بيع الأوهام فسيعود بالوبال على صاحبه وعلى الجميع ..
تونس دولة فقيرة بمعطيات الواقع وبالنظر إلى طموحات أبنائها ..وكم من دولة فقيرة أصبحت غنية بفضل كد وجهد وعرق أبنائها ..تلك هي الحقيقة الوحيدة .. وما سواها فكله هراء وزبد يذهب جفاء..