ولكن الاقتصاد أيضا بشر يدّخرون ويستثمرون وينتجون ويستهلكون.. وكل هذه العمليات تستوجب ثقة في المستقبل ومراهنة عليه .. والاستثمار والإنتاج والاستهلاك كلها عمليات تخضع لسلم قيم ثقافية ومجتمعية ولعادات وتقاليد بتغييرها أو بتنشيطها تتغير معطيات الاقتصاد وتتحول السلبيات إلى ايجابيات ..
نعود إلى مديونية البلاد المتفاقمة وإلى التدحرج المحير لعملتنا الوطنية ولعجزنا التجاري المذهل ولبطالة شبابنا ويأس أجزاء هامة من مواطنينا. لإيجاد حل لكل هذا بصفة تدريجية لابدّ من استعادة نسق نموّ جدّي (أي فوق %5) ولكن في الاقتصاد ، كما في الرياضة، النجاح يدعو النجاح والفشل الحالي يؤسس للفشل القادم..
لقد اجتهدت كل الحكومات ما بعد الثورة لإيجاد حلول ظرفية لأزمات جلّها هيكلية .. وهذه الحكومة ، أو التي تليها ،مدعوة للشروع في عملية الإنقاذ الهيكلية ..ولكن هل يعفينا هذا نحن التونسيين مستثمرين ومنتجين ومستهلكين من المساهمة الفعلية والشخصية في إنقاذ اقتصاد البلاد؟ !
بإمكان التونسيين لو آمنوا ببلادهم وبمستقبلها أن يغيّروا جزءا هاما من المعادلة الاقتصادية..
لنبدأ من النهاية ومن محصّلة كل السيرورة الاقتصادية : الاستهلاك.. هذه العملية التي يقوم بها كل واحد منا بصفة شبه آلية مرات عديدة في اليوم الواحد بدءا من قلم أو من فواكه جافة أو أجبان أو مواد تنظيف وصولا إلى اقتناء منزل أو سيارة...
تونس، ككل بلاد الدنيا ، مجتمع استهلاك..
وكل ما نستهلكه تنتجه مؤسسات محلية أو أجنبية وتعود عوائده إليها والى مواطن الشغل التي يوفرها أو يحميها أو يخلقها كل عمل استهلاكي ..
لقد تعود المستهلك التونسي على استهلاك فردي وفق إمكانياته بداية وحاجياته ثانيا..ولكن قلّ وندر أن فكر هذا المستهلك في أنّ كل ما يقتنيه – مهما قل ثمنه – إنما هو نتيجة استثمار وإنتاج ترتبط به ثروة ما ومواطن شغل مخصوصة.. يعني بوضوح بان كل استهلاك لسلعة أجنبية يخلق ثروة وشغلا ويجلب استثمارا لتلك الدولة الأجنبية.. ويقابله تدمير لثروة ولشغل ولاستثمار في بلادنا..
تلك هي بديهيات الاقتصاد التي يتجاهلها في جلّ الحالات المستهلك التونسي عندما يستهلك.
هنالك ولاشك حاجة إلى استهلاك مواد لا تصنع في بلادنا ..كما أننا في اقتصاد مفتوح ولا يمكن أن نعود إلى سياسات منع مقنعة لأن ذلك يضر بكل منتوجاتنا التي نريد تصديرها.. ولكن لا أحد يتحكم في اختيارات المستهلك سوى المستهلك ذاته.. عندما نتحدث عن الوطنية الاقتصادية فنحن نتحدث عن الوعي الضروري للمستهلك بأن يقلع عن عادات لم يفكر جيدّا فيها..
ونحن لا نتحدث فقط عن الفواكه الجافة والمواد الغذائية والملابس والأحذية ومواد التجميل ولعب الأطفال التي غزتنا ودمرت جزءا هاما من آلتنا الإنتاجية ومن مواطن شغل أبنائنا ومن ثروتنا الوطنية..
نحن نتحدث عن استهلاك كل سلعة أو خدمة .. نتحدث عن أولئك الذين يختارون قضاء عطلهم السنوية في الشتاء أو الصيف أو قضاء شهر العسل في بلدان أجنبية ..كم من ليلة مقضاة حرمت منها النزل التونسية وكم من مئات ملايين الدنانير أنفقت بالعملة الأجنبية لفائدة دول أجنبية !!
لا أحد يدعو إلى أن يقاطع التونسيون السفر السياحي للخارج..ولكن لو فكر كل واحد فينا قبل قضاء عطلة بالخارج إلى كل استتباعات قراره هذا لأدرك أن قضاء عطلة جميلة في أحد مواقعنا السياحية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب سوف يجلب استثمارات ويخلق مواطن شغل لأبناء بلدنا..
سلوك المستهلك التونسي الحالي بصدد تدمير أجزاء متعاظمة من نسيجنا الاقتصادي ..تكلمنا عن السياحة والصناعات الغذائية والفلاحة ورأينا الكارثة التي حلت بقطاع الملابس الجاهزة ويوم أمس أطلقت الجامعة الوطنية لمواد البناء التابعة لاتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية صيحة فزع نتيجة التوريد العشوائي في مواد البناء.. نعم مواد البناء..
يمكن أن نواصل على هذه الشاكلة وأن نستهلك ما يحلو لنا أو ما أعجبنا شكله وثمنه ولكن ينبغي أن نعلم أن كل واحد فينا ماسك بمعول صغير لهدم اقتصاد بلادنا..
عندما نستهلك تونسيا في كل المجالات الممكنة صناعية وخدماتية وعندما نقتصر على استهلاك المواد غير المنتجة محليا على الضروري والنافع في ذات الوقت نكون قد غيّرنا المعادلة رأسا على عقب دون أن نجبر بلادنا على اتخاذ إجراءات حمائية مقنعة ونكون قد قلّصنا إلى الأقصى عجز ميزاننا التجاري ورفعنا في قيمة عملتنا الوطنية وتحكمنا بشكل أفضل في مديونيتنا الخارجية .. كل هذا مرتبط بسلوك المستهلك فقط ..أي انه يمكننا تغيير جذري لهذه المعطيات انطلاقا من اليوم ودون انتظار سياسات عمومية قد تأتي وقد لا تأتي ..
ولكن الوطنية الاقتصادية لا ينبغي أن تقف عند مستوى الاستهلاك بل يجب أن تتناغم مع العنصرين الأساسيين في العملية الاقتصادية : الاستثمار والإنتاج..
فنحن نرى تيارا جارفا قد يذهب بما تبقى من آلة صناعية في البلاد : ابتعاد بعض كبار ومتوسطي المستثمرين التونسيين عن بعث المشاريع الصناعية والاستعاضة عن ذلك بواجهات تجارية ليافطات أجنبية تدمر في ذات الوقت الصناعة الوطنية ومخزوننا من العملة الصعبة وتفاقم عجز ميزاننا التجاري .. لا يمكن أن ندعو المستهلك إلى الوطنية الاقتصادية إذا كان المستثمر مستهترا بها..
لاشك لدينا بأنه من المشروع للمستثمر أن يبحث عن أسواق أجنبية لدعم موقعه ولكن ما لا يمكن لبلد كالولايات المتحدة الأمريكية أن تتحمله لا يمكن لنا الصبر عليه وهو خلق الثروة خارج الوطن إما بالاستيراد بدل التصنيع أو بالاستثمار في التصنيع خارج حدود الوطن..
عندما نواجه قضية مصيرية كإنقاذ البلاد وبعث الأمل من جديد في صفوف شبابها لا يمكن أن نتصرف بهذه الشاكلة لا على مستوى الاستثمار ولا على مستوى الإنتاج ولا على مستوى الاستهلاك ..
الوطنية الاقتصادية ليست عودة إلى الوراء بل هي الطريق الوحيدة لإنقاذ البلاد من الانهيار النهائي..