• من الواضح أنّ أزمة الشكّ بين التونسيين صارت بنيوية إذ تجاوزت الشكّ في حزب النهضة ونواياه وخطابه «المزدوج» مثلما كان الأمر في بداية مرحلة التحول لتشمل اليوم الجميع: الشكّ في الحكومة، وفي المنتمين إلى الأحزاب وفي نواب مجلس الشعب وفي الوعود وإمكانية الإصلاح أو نجاح السياسات ...فكيف تنجح العملية التواصلية بين المسؤول والشعب؟ وكيف السبيل إلى بناء علاقات تبادلية بين مختلف الفاعلين من محتجين ومعتصمين ...؟ وكيف يتسنّى البناء في ظلّ مناخ تهيمن عليه الريبة والشكّ؟ ولعلّنا لا نبالغ إن اعتبرنا أنّ أزمة الشكّ قد تحولّت إلى أهمّ عائق من عوائق إنجاح مسيرة التحوّل.
• يشير تردّد الحكومة في الوفاء بالتزامها بمواجهة استشراء الفساد إلى فقدان المصداقية في كلّ خطاب يأتي على لسان رئيس الحكومة. فقد انتظر التونسيون بفارغ الصبر موعدا تسقط فيه «الرؤوس التي أينعت وآن أوان قطافها’ ولكن دون جدوى، وهو ما يجعل الخطاب السياسي مفرغا من قيمته إن هو إلاّ كلام ...بلا أفعال، والحال أنّ مرحلة الانتقال الديمقراطي تقوم على البناء والـتأسيس لممارسات سياسية جديدة وقرارات جريئة تنفذ في الإبّان لتثبت للتونسيين أنّ عهد «عصابة السراق» قد ولّى بالفعل.
• زالت حلاوة الشعور بالانتصار على المنظومة القديمة وإسقاط النظام. فبعد «التوافق’ بين لوبيات الفساد والسياسة والإعلام من أهل اليمين واليسارصارت منظومة ما بعد التجمّع وما بعد الثورة تشكّل خطرا حقيقيا يؤذن بخراب العمران لاسيما وأنّ اللاحق تفوّق على السابق.
• لم يعد الإعلام السلطة الرابعة في نظر القيادات السياسية وإنّما صار هو العقل المدبّر الذي بإمكانه أن يغيّر مجرى الأحداث فيرفع ويسقط، وتنحني أمامه الرقاب فتجعل حزب النهضة المتمسك بالمرجعية الإسلامية والهوية الإسلامية والقيم الإسلامية و«الذي يعرف ربّي» يسقط في الفخّ فيؤازر صاحب القناة ومالك «ماكينة الانتخابات» والحاكم بأمره ... ضاربا الهيئات الدستورية في العمق وهو الذي أراد أن يقدّم نفسه في ثوب الحزب الذي لاءم بين مقتضيات الإسلام وضوابط الديمقراطية. ولم يكن حزب النهضة بمفرده ضعيفا أمام سحر أصحاب القنوات فالجبهة الشعبية التي انتقدت وعارضت وفضحت اللوبيات المتآمرة على الشعب... هلّت علينا في ثوب جديد يؤكد على أنّ هيمنة الإعلام على السياسة لا تقاوم وقس على ذلك مواقف أشباه الأحزاب.وبعد أن كانت الخصومة على أشدها بين الفرقاء ها قد حصل الإجماع وسبحانه مغيّر الأحوال.
• إنّ تعثّر مسار التحوّل في نظرنا ،هو علامة دالة على أنّ القوّة المضادة شبه غائبة، ومعنى هذا أنّ مسؤولية تعديل الكفة وإحداث التوازن بين مختلف القوى المهيمنة على المشهد السياسي هي بيد المجتمع المدني الذي ينبغي أن يستعيد فاعليته وقوته ليصحح المسار. ولعلّ ما واجهته جمعية «أنا يقظ» قد يحفّز بقية مكونات المجتمع المدني لتهب من مرقدها وتستيقظ من سباتها.
• لقد جاهد مناضلو القطاع الإعلامي في سبيل تحرير السلطة الرابعة من قبضة بن عليّ ولكن نرى أنّهم اليوم مطالبون بتنقية قطاعهم من الغرباء والمتطفلين على الميدان والدفاع عن مكتسباتهم ، وخاصة منظومة التعديل الذاتي ،وموقعهم والقيم والمبادئ التي آمنوا بها إذ أنّ السكوت وغض الطرف تواطؤ مهما تعدّدت المبررات.
ليس التسريب فعلا شائنا يعرّي صاحبه، ويفضح الدسائس والمؤامرات التي تدبّر ليلا فحسب بل هو مرآة نرى من خلالها ما آل إليه وضع أهل المال، وأهل السياسة وأهل الإعلام وأهل القانون ...هو محرار للكشف عن هيمنة الفردانية والمصلحة الخاصة وتفشي الهوس بالسلطة ...إنّه الخطر الداهم الذي سيقضي على الأخضر واليابس وسيحول حلم بناء الجمهورية الثانية إلى سراب.