ما وراء السردية الكبرى...

لا بأس أن نتذكّر حال التونسيين بعد سقوط رأس النظام: كيف كانوا يتصرفون؟ وما هي الحجج التي استندوا إليها في قراءة التحولات؟ وما هي العدّة المنهجية التي ساعدتهم على تفسير الأحداث

المفاجئة ؟ وكيف كانوا يتفاعلون معها؟ ويحاولون التكيّف مع الواقع الجديد. ففي التذكر مجال للمقارنة والتمحيص وفهم ما يحدث اليوم.

لقد انطلق الفاعلون السياسيون والناشطون والمحللون وغيرهم في إنتاج «سردية» حول ما وقع طيلة عقود من الزمن جاعلين الرئيس الأسبق وبطانته في مركز الاهتمام و بؤرة التحديق فكان تتبع مسالك الفساد في «التجمّع» والقطاع الإعلامي: «إعلام العار» والبحث عن حجج الإدانة في القصر وفي بعض المؤسسات الأخرى.

وهكذا تشكلت «رواية» أبطالها أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة الحاكمة ومن احتّك بها.ونسبت الانتهاكات والفساد والمحسوبية والتنكر للمصلحة الوطنية «لأبطال» استطاعوا التحكم في مفاصل الدولة بإحكام شديد. وليس يخفى أنّ إنتاج مثل هذه السردية قد ساهم إلى قدر كبير، في إطلاق العنان للتونسيين حتى يفرغوا شحنة السخط والغضب ويصبوا كلّ الحنق والكره والمقت على «كبش الفداء» إذ لابدّ للجماعة من فرصة لطقسنة العنف . ولئن عبر المهمشون والمقصيون والمنفيون عن معاناتهم «سنوات الجمر» فإن استمرار تداول «السردية» قد حفز فئات أخرى لرواية بطولات وهمية ونسج قصص نضال خيالية.

ولكنّ مسار التحوّل الديمقراطي كشف المستور وفضح الفاعلين السياسيين ومنتحلي النشاط الحقوقي والمتطفلين على التحليل السياسي والاقتصادي والأمني وغيرهم من التربويين والأطباء... يكفي أن نتأمل في سلوك عدد من النواب والسياسيين حتى نتفطن إلى أنّ الأقدار زجت بالبعض إلى عالم السياسة فتصرفوا بتلقائية عرّت مستوى الإدراك وفضحت تضخم الذات وكثرة الأطماع و«العطب» الأخلاقي.

ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى المنتمين إلى القطاع التربوي فالأزمة التي عايناها تتعدى الخلافات المعهودة حول تصورات طرق الإصلاح والجدل حول البرامج. إنّها مقاومة شرسة لكلّ من تسول له نفسه تغيير نمط عيش فئة من المسترزقين من العلم الذين يمارسون الضغط على التلاميذ وأهاليهم حتى يدفعوا لا بالتي هي أحسن بل بالتهديد ... أو أولائك الذين يتقاضون جراية والحال أنّهم يتغيبون ليهتموا بمصالح أخرى...

والواقع أنّ سنوات التحول سمحت لنا بأن نكتشف حال السياسيين والمربين والإعلاميين والصيادلة والمحامين وكذلك الأطباء يكفي أن يصغي الواحد إلى حوارات هؤلاء خلال يومي الإضراب ليصيبه القرف. فبعضهم يحتسب عدد الأجساد التي كان بإمكانه «فتحها وشقها» والمكسب الذي كان بإمكانه تحقيقه والبعض الآخر لا يتوانى عن التعبير عن تشفيه من «طوابير المرضى» المنتظرين... وحدث ولا حرج عن عدد الأطباء الذين سافروا بحثا عن الاستجمام أيام الإضراب...

ما وراء السردية الكبرى: (فساد بن عليّ وبطانته واستبداده ) سرديات أخرى تبرز في كلّ قطاع ... أبطالها ليسوا فقط من علية القوم بل هم من عامة الناس... يشترك جميعهم في كره الوطن وكره من يقف في طريق تحقيق المصلحة الخاصة كل يتصرف وفق عقلية «رزق البيليك».وما كان بالإمكان أن نبصرهم لولا إزالة الستارة فها نحن نتأمل ونحدق فيبدو القبح وتتجلّى البشاعة... ويصيبنا الإحباط ونشعر بالغثيان ولكننا لن نعمل بمبدإ يريد أن يكرسه أصحاب «التوافق المزعوم» إسدال الستار على العورات»...

من واجب المجتمع المدني أن يتحرك وأن يقف بوجه هذا التيار الذي يريد أن يتنصل من المسؤولية وأن يوهمنا بأنّ الداء قد استشرى وأنّه لا سبيل للإصلاح إنّما هو التطبيع مع الرداءة والانحطاط والسقوط الأخلاقي...

ولكن لا يزال في تونس من يؤمن بأنّ قيم البذل والعطاء والعمل والتضحية والكد خالدة وأنّ الابتكار والإنتاج والإصلاح... ممكن.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115