وفي الحقيقة يعود جزء هام من هذا العزوف بل والاشمئزاز إلى عجز الحكومات المتعاقبة عن تغيير الأوضاع المعيشية للناس وللكم الهائل من المشادات والملاسنات والصراعات والاتهامات المتبادلة على شاشات التلفزات خلال أكثر من ست سنوات .. فبعد الاستبشار الجماعي بالحرية وبالتعددية الحزبية التي رافقتها أصبحت الأحزاب محلّ اتهام من قبل أجزاء متعاظمة من التونسيين..
يكفي أن نتذكر تلك الأعداد الغفيرة المصطفة ذات يوم أحد 23 أكتوبر 2011 طيلة ساعات طوال لندرك حجم الأمل المعلق آنذاك على الطبقة السياسية وكيف أننا خسرنا خلال 3 سنوات نصف مليون ناخب ومع ذلك فقد كان هنالك أمل أيضا في تغيير الترويكا وما تبع حكمها من تجاوزات ضخمة في حق البلاد ولكن حتى أمل 2014 قد تم اغتياله من جديد بعد المشهد المريع الذي أعطاه الحزب، الفائز نداء تونس، عن نفسه وعن السياسة : تشققات وانقسامات ومسلسل توريث بائس واختراق لوبيات الفساد والاتهامات المتبادلة والتي بلغت مستوى لم يكن احد منا يتصوره في زوايا الخيال المظلمة ..
ولكن لا ديمقراطية دون أحزاب ولا إنقاذ للبلاد دون طبقة سياسية جدية تضع مصلحة البلاد قبل مصلحة الأحزاب والأفراد والعائلات ..
في هذا الظرف بالضبط ومنذ أشهر عديدة تستعد قوى وشخصيات سياسية لإطلاق مبادرات حزبية جديدة سعيا منها لتقديم صورة أخرى عن السياسة وعن السياسيين في بلادنا.
أول هذه الأحزاب هو مشروع تونس المنشق من رحم النداء والذي يسعى للقيام، من وجهة نظره ،بتصحيح الانحراف الحاصل بعد الانتخابات 2014.. المبادرة الثانية قام بها رئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة والذي سيعلن غدا في ندوة صحفية عن حزبه الجديد «البديل التونسي» والفكرة الأصلية هي محاولة تقديم مشروع حزبي يقطع مع السائد فيسهم في بناء دولة تقودها كفاءات براغماتية وذات فاعلية ..
محاولة أخرى نجد وراءها احمد نجيب الشابي وبعض الشخصيات السياسية المخضرمة وهدفها أيضا تقديم صورة جدية عن السياسة وعن السياسيين..
وكما تلاحظون فكل الأحزاب تتنافس على وراثة المخزون الانتخابي لنداء تونس أو بالأحرى القاعدة الانتخابية التي لا تريد الحركة الإسلامية ولا تميل إلى المشاريع القومية العربية ولا كذلك للتصورات اليسارية .. وهذه القاعدة تمثل ما لا يقل عن نصف الناخبين وقد افتك نداء تونس اغلب مكوناتها في 2014 وهو مازال ينوي المحافظة على هذه «الغنيمة» إذ تفيد كل عمليات سبر الآراء بأن الحزب الذي أسسه الباجي قائد السبسي، رغم خسارته ثلث قاعدته الانتخابية مازال يحتل صدارة الترتيب في نوايا التصويت.. ولكن هنالك عائلات فكرية وسياسية أخرى قريبة من هذا المخزون الانتخابي وهي تسعى الآن للاستعداد الجيد للمواعيد القادمة وعلى رأسها الانتخابات المحلية.. من هذه الأحزاب نذكر خصوصا حزب أفاق تونس الذي سيعقد نهاية هذا الأسبوع مؤتمره الثاني والذي سيوضح فيه ولاشك هويته السياسية وطبيعة التحالفات التي سيقدم عليها وكيف سيتصرف مع المعطيات السياسية الحالية وخاصة ما تشهده بعض أحزاب الحكم من فضائح داخلية وغسيل منشور على قارعة الطريق ..
العائلة الدستورية تسعى بدورها لتموقع أفضل في الخارطة الحزبية بصفتها تلك لا باعتبارها جناحا في حركة اكبر منها.. ولكن كل المحاولات السابقة لبروز أحزاب دستورية صرخة قد فشلت انتخابيا ..
كل هذا المشهد السياسي، بقديمه وجديده، سيجد نفسه أمام تحد ضخم في نهاية السنة الانتخابية البلدية فهي وحدها التي ستحسم في مدى جدية كل التنظيمات والمشاريع الحزبية .. وليس المهم في الحقيقة من سيفوز بها بقدر مخاوف الجميع من هزيمة قاسية قد تقضي على أحلام وطموحات كبيرة .. وهنا سوف نجد صراعات مهمة ولكن في مستويات مختلفة :
• من سيتمكن من التقدم في كل البلديات أو جلها مع العلم بان هذا يستوجب تقديم حوالي 7200 مترشح بشروط صارمة هذه المرة مقارنة بالانتخابات التشريعية ..؟
• من سيفوز بين النداء والنهضة بالمرتبة الأولى ؟
• من هو الحزب الذي سيقدر على تجاوز عتبة 10 % والتي قد تؤهله إلى لعب الأدوار الأولى في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019؟
• من هي الأحزاب التي ستتجاوز عتبة %3 في عدة دوائر بلدية ؟
• من هي الأحزاب التي ستتحطم كل أحلامها لأنها تقدم نفسها باعتبارها أحزابا قادرة على الحكم بينما قد تكون نتائجها على ارض الواقع هزيلة وهزيلة جدا فتهرب عنها القيادات والقواعد الانتخابية أيضا ..؟
ولكن يبقى السؤال الأهم هل ستتمكن الطبقة السياسية التي ستفرزها الانتخابات البلدية من القطع مع هذه الصورة السيئة للغاية للسياسة وللسياسيين وان تكون طبقة في خدمة الناس وان تنجز وعودها على أرض الواقع ؟
أسئلة كثيرة لن نجد بداية الإجابة عنها إلا بعد أن تعطي صناديق الاقتراع حقائق الميدان الجديدة..