و حّتى و إن تمّ الإعلان أحيانا عن فتح أبحاث حول قضايا تهمّ الشأن العام بخصوص الفساد المالي والسياسي و قضايا التهريب ، فإن مآل التتبعات يبقى في عداد المجهول، و يبقى الأمر متوقّفا في حدود خبر عابر تتناقله وسائل الإعلام لبرهة ثم يلفّه النسيان دون أي متابعة تُذكر.
من ذلك علم الرأي العام بتجاوزات و فساد في تمويل الإنتخابات أو في رد أموال لصندوق الدولة، و كشفت دائرة المحاسبات عن ذلك بوضوح . وعلم الناس كم مرّة عن فساد أو شبهة فساد في تمويل عدد من الأحزاب و الجمعيات ، و عن حجز أموال ومواد مهربة.
تجاهر أشخاص على الملأ بإرتكاب أفعال تدخل تحت طائلة التتبعات العدلية و تحدّوا بصريح العبارة كل السلط و أحيانا بالإسم والصفة ، و لكن لم يسائلهم أحد ، فواصلوا تحديهم و إشهار قوّة نفوذهم دون رادع.
كل هذا شرّع للفساد و للإفلات من العقاب ، أمام صمت مريب لمؤسّسات الدولة الماسكة بصولجان سلطة القانون ، و هو ما شجّع على توسّع الظاهرة إلى أن أصبحت مادّة تكاد تكون دائمة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة و المكتوبة إلى أن أصبحت تونس تتبوّأ مكانة «مرموقة» في مجال الفساد .
إن الترسانة القانونية لا تشكو نقصا في مجال إعمال سلطة القانون ، و الندوات التحسيسية والملتقيات العلمية ،و الدورات التكوينية المموّلة من الدّاخل والخارج أصبحت تشكّل «لمّات» أسبوعية تقريبا ، تتداول عليها عدة منظمات وهيئات وجمعيات ، بشكل مستمر ، ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحينا .
كما أن القضاء بمختلف مصنفاته لم يعد خاضعا لتعليمات السلطة التنفيذية و يتمتع بإستقلالية سواء في تحريك الدعوى أو في مباشرة القضايا والحكم فيها ، و إن برّرت محدودية الإمكانيات تعطّل جانب من العمل ، فإن ذلك لا يبرّر الصمت حول التجاوزات الخطيرة التي تتعلّق بالمخالفات الصّارخة المتواصلة.
فأين الدولة و كل مؤسساتها من كل هذا؟ و أين إرادة و فاعلية الماسكين بهياكل و آليات إعمال سلطة القانون و نفاذه؟
لا يمكن للماسكين بالسلطة أن ينكروا إستفحال ظاهرة التهريب الّتي تجاوزت النصف من الموارد المشروعة ،و لا تقارير دائرة المحاسبات و لا تقارير المنظمات الدولية حول الفساد و الرشوة و الإفلات من العقاب . كما لا يمكن أن يتجاهلوا ما يتابعه الرأي العام يوميا من تصريحات و إتهامات وإفادات ووشايات . كما لا يتسنى لهم التصريح بعدم معرفتهم للأحكام الّتي لا تطبّق و بتحدي أشخاص وتشكيلات حزبية للدولة والقانون.
فالدولة، دولة القانون و المؤسسات،هي صاحبة الإرادة النافذة ، وهي الّتي تكون فوق الأحزاب والأشخاص و صاحبة النفوذ المطلق بالقانون وسلطة الدستور . هذه الدولة إذا غابت عمّت الفوضى وغابت معها سيادة القانون. و إذا تواطأت أصبحت دولة فاسدة خاضعة للمساومات، و إذا تخاذلت ، تركت دورها و تخّلت عن نفوذها لفائدة المجموعات واللّوبيات المستقوية ،و هو الطريق المؤدّي إلى حلول دولة ماسكة بهياكل خاوية أي فاقدة للسيادة.
إن «الإطمئنان» لعدم الملاحقة و عدم التتبّع وفي النهاية للإفلات من العقاب ، هو الّذي يشجّع على تحدي الدولة وعدم الخوف من سلطة القانون ،و هو الّذي يسهم في إتساع رقعة الفساد على كل المستويات ،و هنا يكمن الخطر من «غض النظر عن الفساد المالي للعديد من الأحزاب السياسية والجمعيات لضمان الصمت المتواطئ و التهدئة المصطنعة ، و في مهادنة لوبيات التهريب والفساد للحفاظ على «متنفس» ما توفره التجارية الموازية لتموين الأسواق الشعبية لترضية الفئات الضعيفة والمتوسّطة على حد سواء. و الخطر أيضا من غض النظر عن عدم تطبيق الأحكام القضائية خضوعا لإرادة أشخاص أو جمعيات أو إستجابة لأجندات سياسية أو فئوية كما حصل بمدينة الجم مؤخرا وبقرقنة وجمنة سابقا أو مع هيئة الحقيقة والكرامة و الهيئة الوقتية للقضاء العدلي.
ألم يحن الوقت كي تبرز إرادة جادّة لتأسيس دولة القانون والمؤسّسات بفرض سلطة القانون و نفاذه، و التخلّص من «بهتة» التفرّج ، و وقف «نزيف» تخلّي الدولة عن دورها، لفائدة لوبيات طفيلية تستغل ضعف المؤسسات المركزية ، لفرض إرادتها وإملاءاتها على كل الهياكل إعدادا لخلق نمط جديد في ممارسة سلطة على شاكلة سلطة لوبيات المال والتهريب ؟؟